...الصقر والحيات الثلاث...
الحيّة الواشية والحيّة الخادعة والحيّة الصيادة
كان أحد التجار يسير بتجارته فى قافلة من بيت المقدس يقصد القاهرة؛ مدينته. وفى منتصف الطريق هاجم بعض البدو وقطاع الطرق قافلته وسرقوا كل ما فيها و قتلوا كل رجال التاجر، ولكنه استطاع أن يفلت منهم فى صخب المعركة وهرب من اللصوص ونجا منهم فى ظلام ليل الصحراء- دون أن يفطن اللصوص إليه.
وعندما طلع عليه الصباح وجد نفسه ضائعا فى الصحراء الشاسعة وبعد ثلاثة أيام من السير بدون اتجاه، كاد أن يفتك به العطش، حتى بلغ مكانا وجد عنده بئر قديم ومهجور لكنه كان ممتلأ بالمياه، وبجانب البئر كانت تنمو نخله قصيرة مثمرة، فنزل التاجر فى البئر وشرب من مياهه واغتسل وأكل من تمر النخله واحتمى تحت ظلالها من أشعة الشمس الحارقة ولم يغادر ذلك المكان فلم يكن معه أى شيىء يحمل فيه المياه من أجل الطريق وهكذا ظل هناك ينتظر أن يعثر عليه مسافر فيحمله نحو المدينة، ولكن أحدا لم يأتى، فنذر التاجر لإن نجا من محنته وعاد إلى القاهرة لينفق نصف ماله فى بناء مسجد عظيم عند البئر والنخلة ليكون منارة للضالين فى الصحراء.
وبعد أيام من قسمه عثرت عليه احدى القوافل المتجه لمدينة القاهرة واصطحبوه معهم، ولما عاد وسط أهله، أصر التاجر على أن يبر بقسمه وينفق نصف ماله فى بناء مسجد عظيم عند ذلك البئر، وخرج العمال والبنائين من المدينة ومعهم النجارين وأهل الصنعة تتبعهم قافلة عظيمة تحمل قطع الحجر والرخام وعلى بعد أربعة أميال شرق القاهرة عند موضع البئر شرعوا فى بناء ذلك المسجد كأبهى ما يكون عليه أى مسجد فى المدينة، فجعلوا فيه قبة ومئذنة وفناء واسع ضخم نقشوا حجارة أرضه بقطع من خرط الرخام الأبيض و الأسود و الأحمر، واكتمل البناء وصار المسجد آية فى العمارة والإنشاء ولكن أحدا لم يقم فيه الصلاة، فلقد كان المسجد بعيدا جدا عن المدينة والقرى المجاورة- ولم يرفع فيه الأذان سوى المسافرين أو رجال القوافل العابرة التى كانت تقصده للراحة وسقاية الدواب من ماء البئر.. حتى نضبت مياه البئر ولم تعد القوافل تتوقف عند ذلك المسجد فهو يبعد عن طريق التجارة والسفر.
فخرب البناء وتهدمت جدرانه بفعل عواصف الصحراء الترابية كما سقطت القبة وشرفات المسجد وقمة المئذنة ولكن ذلك لم يكن إلا فى أيام الحفيد الرابع للتاجر بعد مئة عام من وفاة التاجر وهو الوقت الذى تدور فيه حكاية الصقر والحيات الثلاث.
... ... ...
بعيدا .. بعيدا فى وسط الصحراء القاحلة، كانت أشعة الشمس الحارقة تمتد إلى كل مكان ما عدى بقعة صغيرة مليئة بظلال حجارة متناثرة لمسجد متهدم هجره البشر منذ سنين طويلة مضت، لم يكن أى أحد من ساكنى المكان الجدد يعلم أى شيء عن حكاية ذلك البناء أو من بناه.
كان كل من يعيش فى ذلك المكان القفر هم من الحيوانات و بالتحديد حيوانات الصحراء التى اعتادت على الاختفاء نهارا والتجول ليلا، بعيدا عن شمس الصحراء الملتهبة، ولذلك وجدت الحيوانات البرية فى أطلال ذلك البناء جنة من ظلال تحميهم من أذى شمس الصحراء بالنهار وهكذا صار المكان مقصدا للعديد من الحيوانات الصحراوية، خاصة بعد ان اكتشف بعضها كهفا صغيرا مليئا بالمياه يقع أسفل صحن المسجد.
فى داخل شقوق حجارة المسجد عاشت عائلات من الفئران التى تستطيع أن تصل إلى كهف الماء القابع فى أعماق الأرض، وفوق مئذنة المسجد المتداعية وضع الصقر عشا له و منه كان يراقب العالم، الأرض والسماء وكل شىء. عاشت هناك أيضا ثلاث حيات فى وسط أنقاض المسجد وكانت تتغذى على الفئران الضالة.
كانت الحيات ثلاثة أخوات تشبه كل منهن الأخرى ولكن الحب والوئام لم يسد بينهن ، فكانت كل واحدة تكره أختها وتحقد عليها، ولم يكونوا يتقاسمن أى شيء من طعام، وما ان تجتمع اثنتان منهن حتى يتحدثن بالسوء عن الأخت الغائبة.كانت احداهن تسمى الحية "الخادعة" والثانية تسمى "الواشية" وكانت أصغرهن أما الأخت الكبرى فتسمى "الصيادة".
لم يكن الصقر الذى عاش فوق قمة المئذنة يعلم شيئا عن أمر الحيات التى تعيش أسفل منه وسط صخور المسجد، فلقد كان ثلاثتهم ماهرين فى فنون المراوغة والتخفى ولم يكن أى منهم يتحر إلا فى ستار من ظلام الليل، حتى جاءت ليلة اشتد فيها الخلاف بين الحية "الواشية" والحية "الخادعة" وكان صوت الشجار و الصياح يسمع فى كل أرجاء البناء، فاختفت الفئران و هرعت إلى جحورها، واستيقظ الصقر من نومه فوق قمة المئذنة وتسائل إذا كان المسجد به كل تلك الحيات فلماذ لم يراهم من قبل و عزم أنه فى الصباح لن ينطلق للصيد وسيظل فوق المئذنة يحدق فى خرابات البناء ويقتنص تلك الحيات، ولكن فى اليوم التالى ظل الصقر منتظرا فوق المئذنة ولكنه لم يلحظ أى حية تتحرك فى الجوار حتى ظن أن ما سمعه بالأمس كان ظلا فى عقله.
ولكن الحية "الواشية" أرادت الانتقام من اختها "الخادعة" وتتخلص منها ولكن قتلها شيىء لا تقدر عليه، فذهبت تتحسس طريقها بين شقوق الصخور حتى وصلت قاع المئذنة واختبئت فى بئر المئذنة وصارت تهس وتنادى على الصقر من أسفل ولكن صوت هسيسها كان يتسلق ظلام جوف المئذنة ويدوى عند قمتها فى أذن الصقر.
سمع الصقر ندائها و نظر فى البئر فلم يرى أى شيىء يتحرك ولكنه أيضا ما كان ليجازف ويسقط نفسه فى بئر مظلم قد لا يستطيع الخروج منه. فطلب من الحية أن تتسلق وتأتى له فيراها ويسمعها فهو يحب دائما أن يرى من يخاطبه!
فقالت الحية: "أنا الواشية ولكنى لست حمقاء.. لو خرجت لك لأكلتنى.. وأنا أعلم هذا يقينا.. ولكن ان كنت تريد أن تأكل حية فسوف أساعدك على هذا"
قال الصقر: "و كم حيه غيرك فى هذا المكان؟"
قالت الحية "الواشية": " نحن ثلاث حيات أخوات.. .. أنا والخادعة وكبيرتنا الحية الصيادة"
قال الصقر:" حسننا وماذا تريدين؟"
قالت "الواشية": "الصداقة.. وعهد الأمان فى مقابل أختى"
قال الصقر:" اننى أبدا لم أرى أى منكم من قبل .. حسننا ولكن.." ثم صمت قليلا وحدث نفسه فقال: " يا لغباء معشر الحيات و هل يقتل الصقر إلا ما يراه؟" ثم عاد ليحدث الحية وقال : "ولكنى لا أراك ولم أرى أى من أخواتك من قبل؟" أجابته الحية: هذا لأننا لا نخرج إلا فى اليل عندما تكون نائما.. ولا نتحرك إلا فى ستار من ظلام الليل.. ولأن جلودنا سوداء مثل قلوبنا فإنك مهما حدقت فينا فى الظلام فلن ترانا!"
قال الصقر: " اذن فكيف سأحصل على اختك؟".. قالت :" نحن لا نخرج فى اليل أبدا إلا أختنا المخادعة.. تتحرك هنا وهناك فى ساعات النهار فوق صحن المسجد الرخامى".
قال الصقر: " كيف تفعل و انا لم أرها من قبل؟" – قالت: "هذا لأنها مخادعة وماكرة"- وأنا هنا لأطلعك على سرها: "توجد فى أرضية الصحن بلاطات رخامية مزركشة من حجر أسود وأبيض وأحمر، أما ما تفعله أختى فهى لا تضع بطنها أو تزحف إلا فوق الحجارة السوداء، فهى تفعل ما تفعل وتتحرك كيف تشاء فى وضح النهار وأبدا لن يراها طائر من السماء أو صقر راقد فوق مئذنة."
قال الصقر: " هى مخادعة بالفعل.. إنى أتسائل كم مرة خدعتنى تلك الماكرة!!"ثم نظر نحو فناء المسجد و حدق فى أركانه و عاد يلتفت نحو بئر المئذنة و قال: ولكن ان كانت تفعل هذا فلا سبيل لها أبدا"
اغتاظت الواشية من كلمات الصقر و قالت: " لا ليس بعد.. فهناك طريقة واحدة لكشف خدعتها!.. وهى أن تهبط و تقف فى أحد أركان الصحن الأربع و تنتظرها فوق الأرض مباشرة و تخفض رأسك ما استطعت و أنت تراقب أى شيىء يتحرك فوق بلط الصحن الرخامى، فإذا جاءت أختى فسوف تراها من دون أن تراك، فخدعتها الناجحة قد منحتها شيئا من الغرور.. وإذا لزمت مكانك دون أن تخفق بجناحيك فلن يشعر بك أحدهم"
شكر الصقر الحية وفى اليوم التالى فعل مثلما أمرته الحية واستطاع أن يقتنص الحية "الخادعة" وأكلها و كان مذاقها أطيب من مذاق أى فأر التهمه الصقر من قبل، وظل يحلم باليوم الذى يصطاد فيه "الواشية" و"الصيادة" ومرت أيام كثيرة كان الصقر يراقب فيها خرابات المسجد دون أن يلحظ أى حية، حتى جاءت ليلة استيقظ الصقر فيها على صراخ الحيات و شجارها، وفى صباح اليوم التالى لم يغادر الصقر عشه وانتظر ان تأتيه احداهن وهو ما حدث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق