6- نهر النيل
الثعبان "ناليـ - نوس"
بدأ الظلام ينتشر فى المكان ومعه خفت وتيرة أصوات الليل وصيحات الحيوانات التى كانت تسمع بين الحين والآخر حول البحيرة حتى كاد السكون يعم المكان لولا الصوت الهادىء والرخيم للشيطان الأبيض وهو يقص على صغاره حكاية الغابة العتيقة فوق قمة شجرة بعيدة عن شاطىء البحيرة، ولكن من أعلى الشجرة كانت كل الأشياء تبدو قريبة.
خاصة وجه القمر المشرق الذى بدى لصغار البوم مثل دخيل متطفل أقحم نفسه وسط حكايتهم الخاصة ولا سبيل للخلاص منه، ولكن الآن تنظر نحوه صغار البوم وقد علت وجوهم ابتسامه خبيثة وهم يشاهدونه وهو يتعثر فى السماء ويجتهد فى أن يزيح عن وجهه قطعان من السحب الرمادية التى تكاثرت من حوله ولقد عرف الصغار أن محاولاته اليائسة قد باءت بالفشل عندما شاهدوا الشعلة البيضاء وهى تتلاشى خلف غيوم سوداء قاتمة. فاللون الأسود هو لون ثوب النصر بالنسبة لغيوم الليل ترتديه فقط بعد أن تطرد القمر من مملكة السماء.
سعدت صغار البوم بهذا الظلام الدامس الذى أحاط بالعالم، وربما لم تشاركهم كل حيوانات البحيرة هذه السعادة خاصة تلك التى كانت تتلمس طريق عودتها لجحورها فى ضوء القمر، ولكننا فى هذه اللحظة سوف نشارك صغار البوم سعادتهم، فكما اتفقنا من قبل هذه الحكاية ستكون على رواية الشيطان الأبيض وعن لسان أحد الصغار الثلاثة دونت هذه الحكاية.
نظرت البوم الأم الى صغارها التى لم تعد ترى منهم سوى وهج عيونهم الأصفر فى الظلام، لم تستطع الأم ان تتبين ملامح وجوه صغارها فى الظلام ومع ذلك كانت تستشعر السعادة فى بريق عيونهم الأصفر، و كانت البوم الأم تدرك تماما أن هذه السعادة سرعان ما سوف تتلاشى سريعا عندما تأخذ الأحداث السيئة فى الحكاية فى الظهور، ولذلك ضمت الام صغارها نحوها برفق حتى يتذكروا دائما أن ما يسمعونه هو مجرد حكاية حدثت منذ زمن بعيد و قالت:
"هـو هـو بـو بـو"[1]
هكذا بدأ الشيطان الأبيض حديثه فى الظلام ثم أكمل قائلا:
" عاشت القردة سنين سعيدة تحت ظلا الغابة ولكن الحال لم يستمر هكذا إلى الأبد، فلقد جاء صيف جائع، أو هكذا تسمى الحيوانات فصل الصيف عندما يكون حارا و شديد الحرارة " الصيف الجائع" لأن الكثير من الحيوانت تنفق من العطش وندرة المياه، حتى الأسود و الحيوانات المفترسة يدفعها العطش الشدييد لمطاردة الحيوانات من أجل شرب دمائها من فرط العطش"
[1] "هـو هـو بـو بـو": أحيانا أيضا تكون "هـو هـو بـو " وهى بادئة تستخدمها البوم كثيرا فى بداية الحديث لم أستطع أبدا أن أترجم معناها لأى من لغات البشر ، والأمر الملفت والمحير هو أن البوم لا يستخدم هذه البادئه طوال الوقت فى الكلام، ففى بعد الأحيان يستخدمها و فى أحيان أخرى لا يفعل، ولكنى لاحظت أن الكثير من البوم يستخدم مثل تلك البادئه فقط عندما يكون الكلام مطولا، أى يحتوى جملا وفقرات طويلة مثل الحكايات، ولقد حاولت السؤال والاستفسار عنها عدة مرات ولكن دائما كانت تأتى الإجابة من البوم : الـ"هـو هـو بـو بـو" هو الـ"هـو هـو بـو بـو".
ولقد كان ذلك الصيف أشدها جوعا وفيه هلكت الأشجار وجفت الجداول الصغيرة والأنهار وهربت الحيوانات والطيور نحو الشرق والغرب، ففى الشرق يوجد مجرى النهر العظيم الذى يستطيع الصمود فى أشد الأوقات حرا وجفافا، وفى الغرب توجد الغابة العتيقة وظلال أشجار "المووه" وثمارها وجذورها الضاربة عميقا عميقا فى الأرض. وبين النهر والغابة امتلأ العالم بجيف حيوانات عطشى و جذوع أشجار ونخيل ميت، وانتظر الجميع موسم الأمطار ولكن موسم المطر قد تأخر ولم يأتى وازداد جوع ونهم الصيف البارد بلا مطر، ثم نقضى فصل الشتاء البارد بدون أى قطرة مطر ليعود الحر والجفاف يحاصر العالم و بدأت مظاهر الحياة تتلاشى بالتدريج فى البرية الواقعة بين الشرق والغرب أو الصحراء ما بين وادى النهر العظيم والغابة العتيقة، فى الشرق كان النهر العظيم يحارب الجفاف ويقاومه ولكن شمس النهار الحارقة كانت تتصرف بجنون كما لو كان تتبارز الصيف الجائع وتتحداه في من سيفتك بأكبر عدد من الكائنات، فكان شمس "سان-راى" (Sun Ray) [1] ترسل سهامها الحارقه على كل حيوان ضال فى البرية فتفتك به على الفور، واستمر الحال على نفس الوتيرة عام بعد عام، لا مطر فى الشتاء والصيف أشد قسوة وجوعا من الذى قد مضى.
حتى جاء العام السابع وفيه استشعر النهر العظيم الضعف والوهن وقلت المياه وتحجرت الأراضى الخصبة من حوله وتشققت فأدرك النهر أنه لن يستطيع الصمود للشتاء القادم و أرسل الى الغابــــة العتيقة فى الغرب رسولا يطلب المساعدة والنصيحة، كان ذلك الرسول هو فرس الريح "هــــوور" (Hoor).
فى صباح أحد الأيام استيقظت الغابة على صوت من الركض و الصهييل
"كلك.. كلك.. تلك..تلك"
كان ذلك هو صوت نقر الأرض الذى يحدثه الفرس"هـوور"[2] رسول النهر العظيم إلى الغابة، وما ان وصل الفرس أرض الغابة حتى استقبلته أجارها بترحيب شديد أثار فى القرود الفضول و الغيرة!
فتشققت الأشجار التى كانت فى بداية الغابة وتباعدت أغصانها المتشابكة لتصنع طريقا ممهدا لا يعترضه أى شيىء يمتدم من حدود الغابة وحتى قلب الغابة العميقن لقد كان طريق يمتلى بالحشائش القصيرة و الشجرات الصغيرة التى شاهدت الشمس لأول مرة فى حياتها، وقد تناثرت فيه حبات صغيرة حمراء من ثمارالغابة التى كانت تلمع فى نور الشمس مثل قطع المرجان والأحجار الكريمة وعلى جانب الطريق كان صفان من القرود يمشيان ببطىء وسط جذوع و سيقان الشجر المتقاربة وهما يتبعان حركة الفرس الصغير و هو يمشيى متمهلا مستمتعا بترحيب الغابة له، لقد سمعت القردة من قبل صوت الريح و هى تتحدث مع الغابة و لكنها المرة الأولى التى تشاهدها تتجسد فى صورة الفرس وحتى فى هذه المرة لم تميز القردة صوت الريح الذى تعرفه ، فلقد كان الفرس يسير نحو مركز الغابة بهدوء وتثاقل و تتساقط عن جوانبه أوراق من الريش يسقط بعضها و يتطاير البعض و كلاهما كان يتلاشى سريعا، حتى بلغ الحصان قلب الغابة وهو فى هيئة فرس أبيض يتوج رأسه قرن و نصف.
فى قلب الغابة جلست القردة حول الساحة الخضراء تراقب الشجرة الأم و هى تتحدث إلى ضيفها لعلها تعلم من هو ذلك الضيف ذو الشأن العظيم، ولكن أى منها لم يضع قدمه فى الساحة الخضراء فجميعهم كانوا يعرون أن ما يرونه ليس طائر ولا حصان وليس من الحيوانات، وما أن تكلم الفرس حتى ميزوا صوته وعرفوا صاحبه، كان ذلك هو "هوور" سيد الرياح يقف فى الساحة الخضراء فى نفس المكان الذى كانت تجلس فيه القردة منذ سنين تحت أغصان الشجرة الأم تتعلم منها كلمات لغة "المووه"اللغة الأم.
قالت الريح"الفرس –هوور": السلام والتحية على سيدتى الكريمة، النجمة المضيئة فى ليالى العطشى والجوعى والزهرة ذات البتلات الخضراء فى نهار اليائس والمسكين، تحية إلى الظلال المورقة والصامدة فى سنين القحط والجفاف، تحية لسيدتى ومعلمتى فى سنين غاب فيه الأمل"
ثم اننتفض الفرس "هوور" فعادت ستة أزواج من الأجنحة البيضاء تنبت و تنموا فوق ظهره حتى اكتملت وهو يشرعها مستقيمة مرتفعة على كل من جوانبه ، ثم أنحنى على ركبته الأمامية ليقبل المرج الأخضر الذى كان يملأ الساحة ثم تتابعت أزاوج الأجنحة تنخفض وتلامس الأرض ثم تتلاشى بعدها تباعا، زوجا تلو الآخر، حتى عاد فرسا أبيضا منحنيا على قدمه الأمامية أمام الشجرة الكبيرة التى تتوسط الساحة الخضراء واستمر هكذا ولم يتحرك حتى تحدثت الغابة من كل مكان من حوله وسط دهشة القردة التى كانت تراقب المشهد من حول الساحة، فقالت الغابة:
"ارفع رأسك أياها الصديق الغالى، ليس هذا ما يفعله الأصدقاء، مرحبا بك فى بيتك، وان كنت أعلم أنك تكره البيوت وتراها قبورا، لقد عرفتك منذ زمن طويل و معا اختبرنا و شاهدنا أحداثا وأهوالا ولكن هذه أول مرة تقف تحت ظلالى!
وهنا صهل الفرس وأًصدر صوتا أخاف كل القردة فتراجعت مبتعدة ن الساحة و تسلق بعضها جذوع الشجر و اختفى بين الأغصان و فى الفروع، فالريح وان تهذبت فى الكلام و تلاطفت تكره أن يقول لها أحدهم أنها "تقف" أويزيد و يقول" تحت ظلالى"!!
عاد الفرس "هوور" يشرع جوانحه الستة ويتحرك ذهابا و إيابا حول جذع الشجرة الأم التى كانت فروعها تمتد لتغطى الساحة الخضراء مثل سقف أخضر رقيق فيجعل الساحة و كل ما فيها يتلألا بالون الأخضر، حتى الحصان "هوور" كان يرى أجنحته تمتد حوله خضراء اللون أو بيضاء تكاد ترى خضراء ولكن غيظه من لونها كان يصورها له خضراء تماما فكان يتوقف لينفض عنه الريشات الخضراء ثم يتحرك ثانية لتنبت له أجنحة جديدة خضراء اللون وكان بالطبع كل هذا يزيد فيه الغيظ والحنق ولكنه لم ينسى أنه رسول النهر جاء ليلقى أمام الغابة كلمات النهر العظيم، فقال الفرس"هـوور":
[2] الفرس "هوور": عندما تركض الريح تتخذ صورة فرس شفاف، قليل من الكائنات التى تراه و تدرك شكله فالأمر يحتاج إلى قوة ملاحظة شديدة، وفى الحقيقة هذا النوع من قوة الملاحظة لم يكن عندى ،أو على الاقل ليس بالصورة التى لدى الحيوانات التى رأت الفرس "هوور" وتحدثت عنه و أغلب الظن أنه مخلوق أسطورى تخيلته حيوانات البحيرة، ولكن الغريب أن حيوانات البحيرة التى ادعت بأنها تراه أو رأته جميعها تتفق فى وصف واضح و محدد عن ذلك المخلوق و هو أمر طالما حييرنى! فجميع الحيوانات اتفقت فى وصفه بأنه:
" هو فرس أبيض صغير أقرب فى حجمه إلى المهر(صغير الحصان) عن الفرس البالغ، له ثلاث أزواج من الأجنحة دائما تخفق مرفرفة من حوله ولا تكاد حوافر أرجله أن تطأ الأرض و هو يركض. لونه يكاد يكون شفاف فيجعله غير مرئى طالما هو يركض مسرعا ولكنه ما أن يتوقف حتى يتحول لونه أبيضا من سديم ضبابى والذى سرعان ما يعود شفافا نقيا ما أن يتحرك، فحصان الريح"هـوور" لا يحب الوقوف و الثبات فى مكان واحد أبدا وهو دائم الحركة."
" عندما يتوقف الفرس "هـوور" عن الركض يستحيل فرسا عاديا غير مجنح، فأجنحته يتساقط عنها الريش و يذبل كما لو كانت أوراق شجرة أصابها الخريف بالمرض، إلا أنها تعود و تنطلق ثانية ى اللحظة التى ينطلق فيها الفرس مسرعا."
"و الشيء الآخر الذى يمز فرس الريح "هـوور" هو القرنين الذان يتوجا قمة رأسه مثل ذكور الأيل، ولكن أحد قرناه كبير و كثير الفروع مثل شجرة صغيرة و الآخر مكسور، فالفرس "هـوور" يكره الجبال والصخور التى تعترض طريقه وهو أيضا لا يفعل مثل باقى الحيوانان فيتجنب الصخور التى تعترض طريقه و ينعطف من حولها بل يتملكه الكبر والعناد ويحاول تحطيمها بقرنيه و هكذا فقد الفرس أحد قرونه بعد أن حطمه له جبل من الصخر الصلب"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق