الجمعة، 24 فبراير 2012

الغابة العتيقة -1-


... الغابة العتيقة ( العهد القديم )...

1-   حديث الأشجار

"لا تثرثر الحيوانات مثل بنى الإنسان أو تتسكع في الطرقات تتناقل الأخبار، فقد يكون صوت مرتفع لحيوان في الطريق سببًا في كشف مكانه لعدو متربص"

هذه المقولة لا تعنى الاستعجال في تصور الحيوانات كائنات وقورة قليلة الكلام، وربما الوصول للحقيقة لن يتم قبل تجاوز فكرة أن الكلام والأصوات والثرثرة هي مدخل خاطئ لفهم التواصل بين الحيوانات، فكما هو الحال في عالم البشر الذين طوّروا أساليب جديدة للتواصل من ورق كتابة ومراسلات بريدية ولغات إشارة كذلك هو الحال في عالم الحيوان الذي تمتع منذ زمن بعيد بأساليب وطرق غريبة في التواصل مثل الروائح والطبعة الحرارية واقتفاء الأثر ولغة العيون.

ربما كانت لغلة العيون هي أهم ما يميز عالم الحيوان وان فهمها وحده سيتكفل  بتغيير كل مفاهيم البشر عن التواصل في عالم الحيوان ولكن المشكلة هي أن كلماتها المرئية  وقواعدها اللغوية لا مثيل لها في عالم البشر وبذلك يصعب ترجمتها بين العالمين. قد يتعجب الرجل عندما يرى حيوانان يقضيان ساعات طويلة يحدقان في بعضهما البعض دون أن يحدث احدهما أي صوت أو يقوم بأي حركة وقد يتعجل في إطلاق حكمه فيظنها كائنات بليدة وغبية ولكنه في الحقيقة لو تمكن من فهم كلمات اللغة غير المسموعة التي يتحدثان بها قد يجد في حديثهما شيئا من المتعة وربما فضل أن يجالسهما في حديثهما الصامت - وبالطبع لن يحدث هذا إلا إذا اطمئنوا لوجوده ورفقته معهم.

هناك أوقات وأماكن لا تستشعر فيها الحيوان الخوف والقلق فتطلق لنفسها العنان لتبادل الأحاديث  بأصوات مسموعة وصاخبة في بعض الأحيان مثل وقت الشروق والغروب حيث يندر الصيد والقتل في مثل هذه الأوقات فتعم السكينة حول البحيرة لتمتلئ  بضوضاء الأخبار والنوادر وكذلك الأوقات التي تتجمع فيها الأسر والعائلات من أبناء الفصيلة الواحدة والتي غالبا ما تكون أحاديثهم عن الحكمة والحكايات والدروس والعظات التي تركتها الحيوانات الراحلة ودفعت حياتها ثمنا لتلك الحكمة.

من بين كل كائنات و حيوانات البحيرة الثرثارة تظل النباتات و الأشجار هى الأغرب على الإطلاق فلا يكاد يسمع لها أى صوت أو حديث ويظن العديد من صغار الحيوانات أنها كائنات خرساء بكماء شأنها فى ذلك مثل الصخور و قطع الحجارة المتناثرة حول شواطئ البحيرة.

وهذا بالطبع غير صحيح ولا توجد حاجة لإثبات عكس ذلك فقط على المرء أن يجلس أسفل شجرة لبرهة من الزمن وعندها سوف ينصت لأصوات أحاديث غريبة تتبادلها الأشجار مع الرياح فى البداية قد يظن أن الريح هى التى تتكلم وحدها دون أن تتلقى أي رد من الأشجار و بعد برهة من الوقت سوف يدرك أن ما يحدث هو العكس تماما ان الأصوات التى يسمعها الجالس تحت شجرة وتملأ المكان من حوله تحدثها الأوراق المتراقصة و الفروع المتمايلة مع حركة الرياح والحقيقة أن كلاهما يتبادلان الأخبار فالرياح هى رسول الأشجار تأتى بالأخبار لها من الأماكن البعيدة و تحمل منها الرسائل إلى الأشجار التى قد تجدها فى طريق سفرها الطويل.

تستخدم الأشجار لغة غريبة لا تفمها الحيوانات الآن  ولكن الحال لم يكن هكذا دائما فقديما كانت تسمى الحيوانات لغة الأشجار "باللغة الأم " أو "لغة كل الأشياء" ولقد كانت لغة حية تتكلم بها الأشجار مع حيوانات البحيرة ، وقامت الأشجار بتعليم كلماتها  للحيوانات ومن خلالها تعلمت الحيوانات كل شيء يحدث حولها فى العالم الواسع فعرفت أسرار اليل والنهار وأسرار النجوم والمد و الجزر و تعلمت أخبار الأماكن البعيدة و حكايات النهر العظيم و أشياء كثيرة للغاية ، قليل جدا من تلك الأشياء لازالت تتذكره الحيوانات بعد أن حدث أمرا مفزعا لم تتخيل الأشجار أنه قد يحدث أبدا عندما علمت الحيوانات منطق اللغة الأم.. و هو الكذب!

فالأشجار لا تعرف الكذب على الإطلاق ولا تتحدث سوى بالحقيقة و ربما لذلك كانت اللغة الأم لغة مقدسة لأن كلماتها أبدا لم تستخدم سوى فى قول الحقيقة و لم تتصور الأشجار أن  الحيوانات التى تعلمتها قد يأتى يوم و تستخدمها فى قول الكذب و تدنيس "اللغة الأم" أو "لغة كل الأشياء" ولكن هذا ما قد كان ومنذ ذلك اليوم و الأشجار و النباتات امتنعت عن مخاطبة الحيوانات و الطيور باللغة الأم أو بأى لغة أخري و لم تعد ترد على اسئلتها أو حتى ترد التحية .. فقط التزمت الصمت وتناقلت لحيوانات على مدار الأجيال اللغة الأم تلقنها لأبنائها بعد أن امتلأت بكلمات خبيثة شريرة بالطبع ليست كلها كلمات شريرة، ولكن لم تعد لغة مقدسة أو اللغة الأم، وبالتدريج ابتعدت الحيوانات عن الأشجار و ما عادت تحاول الكلام معها فهى أبدا لا تتلقى أى رد منها، و حتى حديث الشجر مع الريح لم يعد مفهوما للكثير من الحيوانات.

ولكن الحيوانات تفتقد تلك اللغة وتعلم أنها لا تزال هناك وأن أجدادهم الأوائل كانوا تكلموها وأجادوها قبل أن يفسدها الأبناء ، اليوم تتبادل حيوانات البحيرة فى جحورها عندما تجتمع أفراد العائلة فى حلقة المساء حكايات غريبة عن زمن بعيد قد مضى كانت الحيوانات تتكلم فيه اللغة الأم وتستطيع الحديث مع أى شيء حولها، فكان الفأر يرتحل وحيدا فى الصحراء لا يخاف العطش ولا الجوع فإذا ما أدركه العطش رفع رأسه نحو السماء و قال "انى عطشان" فإذا بالسحب تجتمع من فوقه و تمطر حتى تتخضب أرجله بماء بحيرة صغيرة من حول أقدامه ، وإذا استشعر الجوع دب بقدمه على الأرض ثلاث طرقات وسألها الطعام فكانت تخرج لها ما تخفيه من بذور و جذور جافة تنتظر موسم المطر القادم و دائما كانت تنتهى تلك الحكايات بمقولة:

" كان ذلك فى العهد القديـــــــــــــــــــم..
حيث كان العـــــــــالم غير العــــــــــــالم
وكانت البحيــــــــــرة غير البحيـــــــرة"