السبت، 31 مارس 2012

الحية والراهب

تمتلئ القرى الجبلية بحكايات غريبة عن غدر الثعابين ومكرها، ربما كانت كل تلك الحكايات صحيحة بالفعل، وربما لم تكن كلها تروى الحقيقة كاملة والدليل على هذا هو إحدى القصص التى حدثت فى قرية بعيدة ونائية وسط الجبال.

فمنذ زمن طويل كانت تتسلل إلى بيوت القرية عندما يحل الظلام أفعى ضخمة سوداء، كانت تدخل البيوت عبر شقوق الجدران ومن أسفل فتحات الأبواب،  وكانت تقتات على فتات الطعام الذى يتركه البشر فى القدور، وكانت تلك الحية تكره البشر و تبغضهم فكانت لا ترى قدر طعام أو جرة ماء أو لبن حتى تنفث فيها السم ليموت أهل الدار فى صباح اليوم التالى من زيارتها الليلية.

بحث أهل القرية عنها وفتشوا فى كل جحر فى القرية و حولها  وقتلوا كل الثعابين والعظات التى  وجودها فى الجحور ومع ذلك ظللوا متيقنين أنهم لم يصلوا غايتهم فلا زال أهل القرية يموتون بسبب عادة الحية البغيضة من بث السم فى القدور بعد سرقة ما بها من طعام، ومها حرص أهل القرية  على تغطية قدور الطعام قبل النوم كانوا كثيرا ما يستيقظون على صوت تحطم أحدى أوانى الطعام الفخارية بعد أن حاولت الحية تسلقه و كشف غطائه، ومع ذلك لم يرها أو يدركها أحد حية، فلقد كانت الماكرة بالرغم من ضخامتها تجيد الاختباء والمراوغة.

وظلت القرية على هذه الحالة حتى قررت الأفعى أن تزور منزل فقير فى طرف القرية، كان المنزل يسكنه راهب عجوز أعمى يعيش بمفرده،  كان منزلا بسيطا و متواضعا من غرفة وفناء يتوسطه بئر ماء، لم تجد الحية فى منزل الراهب أى جرة أو طعام أو حتى قدر، فلقد كان الراهب يقضى الليل فى التعبد وفى النهار كان ينزل إلى القرية و تناول الطعام فى أحد بيوت أهل القرية، ولم يكن فى داره شيئا سوى البئر القديم و بعض الثياب الرثة، ومع ذلك استشعرت الحية الدفء والطمأنينة فى تلك الدار،فعزمت الحية أن تتخذها مسكننا لها كى تضع فيه بيضها فى أحد شقوق جدار الدار خاصة بعد أن اطمئنت إلى أن العجوز  لن يراها أبدا فهو أعمى – وهى من قبل قد خدعت المبصرين من أهل القرية.

عاش كلاهما فى نفس المنزل و الراهب العجوز لا يعلم عنها شيئا، بالنهار ينزل العجوز إلى القرية فيطعمه أهلها و بالليل تنزل الحية فتأكل فتات الطعام و تضع السم فى طعام أهل القرية. واستمر هذا الحال حتى بعد أن وضعت الحية اثنتا عشر بيضة فى شق طولى بين جدار الحائط وأرض دار العجوز، وفى ليلية عادت الحية الى دار الراهب و لم تجد بيضها فى الشق! فتشت الحية عنهم فى الدار  فلم تجدهم ونظرت إلى العجوز  فوجدته فى نوم وسبات عميق، فاغتاظت منه وأرادت الانتقام، لقد كانت الحية تعلم أن الدار تخلو من أى إناء أو قدر ، فاتجهت إلى فناء الدار و تسلقت  بئر الماء الذى اعتاد الراهب أن يشرب منه و نفثت فى مياهه كل ما كان فى جوفها من سم، ونظرت ألى مياه البئر الصافية وهى تتعكر وتختلط بقطرات السم الفضية و شاهدت فوق صفحة مياه البئر صورة الراهب العجوز وهو يتلوى من الألم و ينازع آلام الموت بعد أن يشرب  من ماء البئر فى الصباح.. ومع ذلك ظلت الحية تشعر بالغيظ والكره نحو العجوز فعادت تتسلل إلى الدار،  وهى تتمنى لو أن لها أنياب حادة فتغرز ها فى قدم العجوز العارية و تضع سمها فيه مباشرة، ولكنها قد فقدت أسنانها منذ زمن طويل ولا تستطيع سوى بث السم فى الطعام و القدور.

وعندما تقلب الراهب العجوز فى منامه - انتبهت الحية إلى قدر طعام لم تلحظه من قبل، كان الراهب قد وضعه بينه و بين الجدار وأخفاه بعناية وسط حشوات من ملابسه البالية كما لو كان يخفى داخله طعاما طيبا أو شيئا ثمينا، هرعت الحية على الفور نحو الإناء لتفعل فيه ما فعلته فى البئر ، ولكنها لم تجد فيه سوى  بيضاتها الإثنى عشر التى  كانت من قبل قد وضعتها فى شق الجدار، وقد أحاطها الراهب العجوز بثيابه البالية كى يمنحها الدفئ ، فرحت الحية فرحا عظيما و فرحتها تطايرت سريعا عندما تذكرت البئر وما قذفت فيه من سم  وكيف سهلك العجوز الأعمى عندما يشرب منه فى الصباح.

هرعت الحية نحو فناء الدار تستبق الصباح تحاول أن تجد سبيلا تتدارك به خطئها، فما كان منها إلا أن التفت بجسمها الضخم الطويل حول البئر، وصارت تضغط على حجارته المتراصة فى شكل دائرى حول الفتحة، من قبل اعتادت الحية أن تقوم بهذا التصرف عندما تريد ان تكسر جرة  اخفى فيها البشر طعاما لهم وأحكموا إغلاقها، ولكن حجارة البئر كانت قوية و صلبة أقوى من أى جرة كسرتها الحية من قبل، ومع ذلك تحاملت الحية واعتصرت جدران البئر حتى استطاعت أن تلتقم ذيلها بفمها وأخذت تجذب فيه طوال ما بقى من ليل و مع بزوغ الفجر كانت قطع الحجارة حول البئر  قد تدحرجت من مكانها وهوت فى مياه البئر المسمومة، أما الحية فماتت تحت وطئة الحجارة بعد أن ابتلعت نصف ذيلها و تكسرت عظامها.

وفى الصباح اكتشف أهل القرية كل ما حدث فى المساء بعد أن استدعاهم الراهب الأعمى لينظروا أين اختفى البئر، ولما علم الراهب ما كان من الحية ، احتفظ بالثنى عشر بيضة حتى فقسوا جميعا  وحملهم فى طيات ملابسه وأطلقهم فى البرية ولكن أهل القرية تتبعوه فى صمت دون أن يراهم وقاموا بالتقاط الأفاعى الصغيرة وقتلوها جميعا ولم يخبره أحدهم بما فعلوا.

ومن بعد ذلك مضت الأيام قليلة قبل أن يفارق الراهب الحياة ويوصى بأن يدفن فى بئر منزله، ولما سئله أهل القرية و هو ينازع الموت :

" أو تدفن وسط السم؟"
أجابهم:
" بل وســــــط الحــب"

الثلاثاء، 20 مارس 2012

الغابة العتيقة (الجزء السادس)

فقال الفرس"هـوور":

                      " لقد أتيت أحمل أخبارا سيئة من الشرق، فلقد اشتد الجفاف فى الوادى وهلكت الأشجار والحيوانات و حل الصمت بدلا من تغريد الطيور التى هجرت أعشاشها فوق الأشجار الذابلة، ولقد انحسرت مياه النهر العظيم و اختفت أسماكه فى برك من الطين والوحل."

ثم صمت الفرس وحرك نظره بين الأشجار كما لو كان يبحث عن الشجرة التى سياتى منها الصوت ليوجه إليها الكلام، ولكن عندما رآهم كلهم متشابهين فى صمتهم عاد ببصره نحو الشجرة الأم ووجه كلماته إليها فقال:

                             " إن النهر يحتضر ولقد أرسلنى سيد النهر الثعبان العظيم "ناليـ نوس" إلى غابة "المووه" طلبا فى العون و المشورة .. إنه يدعوك للإجتماع"

لم يتلق فرس الريح"هوور" أى إجابة ولكن هذه المرة عندما تنقل ببصره بين  أشجار الغابة لاحظ القردة التى كانت تقف عند أطراف الساحة الخضراء تراقبه من بين الأشجار المتشابكة، انتبه فرس الريح نحو القردة و ثبت بصره نحو مجموعة منها فهى الوحيدة التى كانت تتحرك فى المكان، وعندها انتابت القردة حالة من الاضطراب و الارتياب و قفزت متراجعة نحو الوراء، فهى لم ترى أبدا هذا الهدوء و السكون من قبل ولم تشهد الريح من قبل تتوقف لتحدق فيها بل دوما كانت تمر بها و تتخطاها، ولقد شعرت القردة بالخوف الشديد خاصة عندما عندما بدأ الفرس "هوور" يتقدم نحوها بخطوات بطيئة، ولكنه سرعان ما أحنى رقبته ليلتفت نحو الخلف عندما ترددت كلمات الشجرة الأم من خلفه:

                          " إنى لا أخاف الجفاف ولكنى أيضا لا أستتطيع الذهاب نحو الشرق.. وصديقك "ناليـ نوس" يعلم هذا جيدا.. فهو يعرف ان جذورى ضاربة فى الأرض ولا أستطيع مغادرة هذا المكان فليس لدى سوى قدم واحدة و آلاف الاصابع المتشابكة. ومع هذا فلن أتخلى عن صديقى "ناليـ نوس"  ولسوف أجد سبيلا لمساعدته"

ثم قالت: " هوور.. .. أيها الصادق السريع.. .. يصلك ردى قبل غروب الشمس... وانتظر منى أخبارا طيبة.." وهنا أحنى الفرس رأس لأسفل فى تحية للغابة وصهل عاليا وارتفعت أجنحته الستة فى الهواء زوجا يلي الآخر حتى اهتزت لها كل أوراق أشجار الغابة ثم ضرب الأرض بقدمه الأمامية ليختفى بعدها مثل ضباب أبيض مزقته أشعة الشمس، ولكن القردة المختبئة شعرت بضربة من الهواء البارد صفعتهم جميعا على وجوههم فى اللحظة التى اختفى فيها الفرس.


فى نهار ذلك اليوم وفى مكان ما فى الغابة ليس ببعيد عن ساحة العشب الأخضر، اجتمعت قردة البابون الناسك تفكر فى العرض و الطلب الذى سألته أشجار "المووه" من القردة، فبعد لحظات من اختفاء فرس الريح "هوور" نادت الأشجار على القردة التى لم تستغرق وقتا فى التجمع حول ساق الشجرة الأم فى الساحة الخضراء وسئلتها ان تكون رسلها للنهر العظيم.. ان الغابة لا تملك أرجل لتحملها نحو الشرق ولكن القردة  أبناء الغابة يستطيعون ذلك كما يستطيعون أن يتحدثوا نيابة عن الغابة ويخاطبوا  الثعبان "ناليـ نوس" بلغة "المووه" و وافق القردة على الفور و فى الحقيقة كانوا سعداء بثقة الغابة فيهم ولكن القرد الضاحك كان الوحيد من بينهم الذى سئل الغابة عن الثعبان "نالينوس" كيف يبدو؟ وهل هو ثعبان يعيش فى النهر؟ و لقد أجابته الغابة قائلة :

" الثعبان ناليـ نوس ليس ثعبان يعيش فى النهر بل هو النهر نفسه ولكنه لا يتخذ صورة الثعبان الى فى مناسابات مميزة ربما كالتى نحن فيها "موسم الجفاف" وكذلك فى "موسم فيضان النهر" .. أنهم يقولون بأن للنهر العظيم سيد يدعى الثعبان "نالينوس" لا يراه أحد طوال سنوات و ربما طوال عمره ولكن أولائك الذين سيرون ذيله سوف يموتون عطشا و أولائك الذين سيرون رأسه سوف يموتون غرقا و ألائك الذين يرون جسده يمتد يجرى بين الجنوب والشمال ولا يمتد بصرهم للجنوب فيبصرون ذيله  أو يدركون رأسه فإنهم سوف يشربون ماءا طيبا ويعيشون حياة طيبة فى وادى النهر العظيم"
وهنا أدركت القردة ان الرحلة الى الشرق  لا تقتصر فقط على مخاطر البرية و السير فى الصحراء الجافة الممتدة ما بين الغابة والنهر ولكن أيضا ربما مقابلة الثعبان المخيف نالينوس قد تحتمل شيئا من الخطورة، ولذلك قررت القردة أن تجتمع فى طرف الغابة و تختار من بينها عشرة من القردة ليمثلوا الغابة فى اجتماعهم مع الثعبان "ناليـ نوس" فاختاروا:

القرد الضاحــــك و القرض الغاضب
القرد المتحـــدث و القرد الصامــت
القرد الذكــــــــى و القرد الغبـــــــى
القرد الشجاــــع و القرد الخــــائف
القرد المتفــــائل و القرد اليـــــائس[1]
 وعند غروب الشمس كان طابور من خمس صفوف من القردة فى كل صف قردان يغادر الغابة متجها نحو الشرق فى رحلة فى الظلام بعيدا عن شمس "سان راى " وسهامها الحارقة على أمل أن يصلوا وادى النهر الجاف قبل أن تتعامد اشمس فى السماء و يشتد وتر قوسها و تطلق سهامها المميتة على المسافرين، كان كل قرد يحمل فى يديه ثمرتين من أطيب ثمار الغابة شديدتا الاحمرار والنضوج ،احداهما لرحلة الذهاب والأخرى لرحلة العودة، فكما أخبرتهم الغابة أن ثمرة واحدة ستكفيهم جوع وعطش الطريق والسفر، كان القردة متحمسين و متفائلين فلى رحلتهم فهم بالأساس قبيلة بابون جوال اعتاد أجداده السفر ولكنهم منذ سنوات ظلوا حبيسين الغابة الجميلة وعلومها وحكمة لغة المووه كما أنهم كانوا يستمتعون برفقة الفرس"هوور" مرشدهم فى طريق رحلتهم فكان فى بعض الأحيان يتقدم الصف و يتباطأ فى مشيته فيستحيل حصانا صغيرا أبيضا وفى بعض الأحيان يكون فى آخر الصف ولكنه كان دائم الحركة ولم يكن يتوقف أبدا ليستريح مثل القردة، وفى بعض الأحيان كان يحلق بأجنحته فى السماء ويصهل صائحا اننى أرى النهر ليدفع الحماسة فى نفوس القردة التعبة وعندما أشرقت الشمس، كانت لطيفة معهم حتى انتصف النهار وهنا احتمى القردة فى ظل صخرة عظيمة والذى كان ليكون مكانا حارا لا تغنى ظلاله عن سهام شمس "سان راى " الحارقة لولا أن كان معهم فى سفرهم الحصان الأبيض" هوور" الذى أخذ يرفرف و يضرب الهواء بأجنحته محطما كل سهام الشمس التى كانت تقترب من الصخرة ومحركا الهواء من حول القردة جاعلا المكان لطيفا أقرب ما يكون إلى وديان غابة "المووه " وهنا تناول القردة أول ثمرة "مووه" كانت لديهم ونالوا قسطا من النوم حتى غربت الشمس وعندها أيقظهم الفرس "هوور" ليكملوا مسيرتهم فى الليل نحو الشرق وواصلوا المسير باجتهاد فى هذه الليلة فالطريق كان خاوى تماما من الجبال أو الصخور  و كانوا يخشون أن يطلع عليهم النهار من دون ملجأ يحتمون فيه من أشعة الشمس وسهام "سان راى" الحارقة وعندما حل الفجر وبددت الشمس البرتقالية ظلام الليل شاهدوا جميعا صورتها المرتعشة و انعكاسها فوق صفحة النهر "نهر النيل" وعندها أدركوا أن رحلتهم قد وصلت لغايتها فقد بلغوا أرض الوادى و قريبا سوف يقابلون ثعبان النــــهر العظيم "ناليـ نوس"، و هنا ركض القرة و هرولوا يهبطون المنحدر الترابى نحو  شاطئ النهر العظيم كما لو كانوا يتسابقون أيهم سيبلغ المياه أولا؟ وسط ضحكات "هوور" المرحة، فلا شيء  أحب إلى "هوور" من منافس يحاول  أن يسابقه و ما أن بلغوا الشاطئ حتى رأوا الفرس الشفاف مشرعا أجنحته ويقف فوق صفحة المياه ولكنهم لم  يلقوا  له الاهتمام وانكبوا على مياه النهر الضحلة يحاولون الشرب منها.



[1]  هكذا وردت أسماء القردة العشرة فى حكاية البوم بلا أى أسماء، فقط اشارة الى صفاتهم، وهو من الأمور النادرة والغريبة أن يحمل الحيوان صفة بدلا من اسم الحيوان إلا فى حالات نادرة و خاصة جدة كما فى حكاية عصافير شجرة الجوزاء ، وربما يكون سبب ذلك هو ان هذه الشخصيات هى أبطال حكاية وليست حيوانات حقيقية.

الجمعة، 16 مارس 2012

الغابة العتيقة(الجزء الخامس)

6-   نهر النيل
الثعبان "ناليـ - نوس"

بدأ الظلام ينتشر فى المكان ومعه خفت وتيرة أصوات الليل وصيحات الحيوانات التى كانت تسمع بين الحين والآخر حول البحيرة حتى كاد السكون يعم المكان لولا الصوت الهادىء والرخيم للشيطان الأبيض وهو يقص على صغاره حكاية الغابة العتيقة فوق قمة شجرة بعيدة عن شاطىء البحيرة، ولكن من أعلى الشجرة كانت كل الأشياء تبدو قريبة.

خاصة وجه القمر المشرق الذى بدى لصغار البوم مثل دخيل متطفل أقحم نفسه وسط حكايتهم الخاصة ولا سبيل للخلاص منه، ولكن الآن تنظر نحوه صغار البوم وقد علت وجوهم ابتسامه خبيثة وهم يشاهدونه وهو يتعثر فى السماء ويجتهد فى أن يزيح عن وجهه  قطعان من السحب الرمادية  التى تكاثرت من حوله ولقد عرف الصغار أن محاولاته اليائسة قد باءت بالفشل عندما شاهدوا الشعلة البيضاء وهى تتلاشى  خلف غيوم سوداء قاتمة. فاللون الأسود هو لون ثوب النصر بالنسبة لغيوم الليل ترتديه فقط بعد أن تطرد القمر من مملكة السماء.

سعدت صغار البوم بهذا الظلام الدامس الذى أحاط بالعالم، وربما لم تشاركهم كل حيوانات البحيرة هذه السعادة خاصة تلك التى كانت تتلمس طريق عودتها لجحورها فى ضوء القمر، ولكننا فى هذه اللحظة سوف نشارك صغار البوم سعادتهم، فكما اتفقنا من قبل هذه الحكاية ستكون على رواية الشيطان الأبيض وعن لسان أحد الصغار الثلاثة دونت هذه الحكاية.

نظرت البوم الأم الى صغارها التى لم تعد ترى منهم سوى وهج عيونهم الأصفر فى الظلام، لم تستطع الأم ان تتبين ملامح وجوه صغارها فى الظلام ومع ذلك كانت تستشعر السعادة فى بريق عيونهم الأصفر، و كانت البوم الأم تدرك تماما أن هذه السعادة سرعان ما سوف تتلاشى  سريعا عندما تأخذ الأحداث السيئة فى الحكاية فى الظهور، ولذلك ضمت الام صغارها نحوها برفق حتى يتذكروا دائما أن ما يسمعونه هو مجرد حكاية حدثت منذ زمن بعيد و قالت:

"هـو هـو بـو بـو"[1]
هكذا بدأ الشيطان الأبيض حديثه فى الظلام ثم أكمل قائلا:
" عاشت القردة سنين سعيدة تحت ظلا الغابة ولكن الحال لم يستمر هكذا إلى الأبد، فلقد جاء صيف جائع، أو هكذا تسمى الحيوانات فصل الصيف عندما يكون حارا و شديد الحرارة " الصيف الجائع" لأن الكثير من الحيوانت تنفق من العطش وندرة المياه، حتى الأسود و الحيوانات المفترسة يدفعها العطش الشدييد لمطاردة الحيوانات من أجل شرب دمائها من فرط العطش"


[1] "هـو هـو بـو بـو": أحيانا أيضا تكون "هـو هـو بـو " وهى بادئة تستخدمها البوم كثيرا فى بداية الحديث لم أستطع أبدا أن أترجم معناها لأى من لغات البشر ، والأمر الملفت والمحير هو أن البوم لا يستخدم هذه البادئه طوال الوقت فى الكلام، ففى بعد الأحيان يستخدمها و فى أحيان أخرى لا يفعل، ولكنى لاحظت أن الكثير من البوم يستخدم مثل تلك البادئه فقط عندما يكون الكلام مطولا، أى يحتوى جملا وفقرات طويلة مثل الحكايات، ولقد حاولت السؤال والاستفسار عنها عدة مرات ولكن دائما كانت تأتى الإجابة من البوم : الـ"هـو هـو بـو بـو" هو الـ"هـو هـو بـو بـو".

ولقد كان ذلك الصيف أشدها جوعا وفيه هلكت الأشجار وجفت الجداول الصغيرة والأنهار وهربت الحيوانات والطيور نحو الشرق والغرب، ففى الشرق يوجد مجرى النهر العظيم الذى يستطيع الصمود فى أشد الأوقات حرا وجفافا، وفى الغرب توجد الغابة العتيقة وظلال أشجار "المووه" وثمارها وجذورها الضاربة عميقا عميقا فى الأرض. وبين النهر والغابة امتلأ العالم بجيف حيوانات عطشى و جذوع أشجار ونخيل ميت، وانتظر الجميع موسم الأمطار  ولكن موسم المطر قد تأخر ولم يأتى وازداد جوع ونهم الصيف البارد بلا مطر، ثم نقضى فصل الشتاء البارد بدون أى قطرة مطر ليعود الحر والجفاف يحاصر العالم و بدأت مظاهر الحياة تتلاشى بالتدريج فى البرية الواقعة بين الشرق والغرب أو الصحراء ما بين وادى النهر العظيم والغابة العتيقة، فى الشرق كان النهر العظيم يحارب الجفاف ويقاومه ولكن شمس النهار الحارقة كانت تتصرف بجنون كما لو كان تتبارز الصيف الجائع وتتحداه في من سيفتك بأكبر عدد من الكائنات، فكان شمس "سان-راى" (Sun Ray) [1] ترسل سهامها الحارقه على كل حيوان ضال فى البرية فتفتك به على الفور، واستمر الحال على نفس الوتيرة عام بعد عام، لا مطر فى الشتاء والصيف أشد قسوة وجوعا من الذى قد مضى.

 حتى جاء العام السابع وفيه استشعر النهر العظيم الضعف والوهن  وقلت المياه وتحجرت الأراضى الخصبة من حوله وتشققت فأدرك النهر أنه لن يستطيع الصمود للشتاء القادم و أرسل الى الغابــــة العتيقة فى الغرب رسولا يطلب المساعدة والنصيحة، كان ذلك الرسول هو فرس الريح "هــــوور" (Hoor).

فى صباح أحد الأيام استيقظت الغابة على صوت من الركض و الصهييل
"كلك.. كلك.. تلك..تلك"
كان ذلك هو صوت نقر الأرض الذى يحدثه  الفرس"هـوور"[2] رسول النهر العظيم إلى الغابة، وما ان وصل الفرس أرض الغابة حتى استقبلته أجارها بترحيب شديد أثار فى القرود الفضول و الغيرة!
فتشققت الأشجار التى كانت فى بداية الغابة وتباعدت أغصانها المتشابكة لتصنع طريقا ممهدا لا يعترضه أى شيىء يمتدم من حدود الغابة وحتى قلب الغابة العميقن لقد كان طريق يمتلى بالحشائش القصيرة و الشجرات الصغيرة التى شاهدت الشمس لأول مرة فى حياتها، وقد تناثرت فيه حبات صغيرة حمراء من ثمارالغابة التى كانت تلمع فى نور الشمس مثل قطع المرجان والأحجار الكريمة وعلى جانب الطريق كان صفان من القرود يمشيان ببطىء وسط جذوع و سيقان الشجر المتقاربة وهما يتبعان حركة الفرس الصغير و هو يمشيى متمهلا مستمتعا بترحيب الغابة له، لقد سمعت القردة من قبل صوت الريح و هى تتحدث مع الغابة و لكنها المرة الأولى التى تشاهدها تتجسد فى صورة الفرس وحتى فى هذه المرة لم تميز القردة صوت الريح الذى تعرفه ، فلقد كان الفرس يسير نحو مركز الغابة بهدوء وتثاقل و تتساقط عن جوانبه أوراق من الريش يسقط بعضها و يتطاير البعض و كلاهما كان يتلاشى سريعا، حتى بلغ الحصان قلب الغابة وهو  فى هيئة فرس أبيض  يتوج رأسه قرن و نصف.

فى قلب الغابة جلست القردة حول الساحة الخضراء تراقب الشجرة الأم و هى تتحدث إلى ضيفها لعلها تعلم من هو ذلك الضيف ذو الشأن العظيم، ولكن أى منها لم يضع قدمه فى الساحة الخضراء فجميعهم كانوا يعرون أن ما يرونه ليس طائر ولا حصان وليس من الحيوانات، وما أن تكلم الفرس حتى ميزوا صوته وعرفوا صاحبه، كان ذلك هو "هوور" سيد الرياح يقف فى الساحة الخضراء فى نفس المكان الذى كانت تجلس فيه القردة منذ سنين تحت أغصان الشجرة الأم تتعلم منها كلمات لغة "المووه"اللغة الأم.

قالت الريح"الفرس –هوور": السلام والتحية على سيدتى الكريمة، النجمة المضيئة فى ليالى العطشى والجوعى  والزهرة ذات البتلات الخضراء فى نهار اليائس والمسكين، تحية إلى الظلال المورقة والصامدة فى سنين القحط والجفاف، تحية لسيدتى ومعلمتى فى سنين غاب فيه الأمل"

ثم اننتفض الفرس "هوور" فعادت ستة أزواج من الأجنحة البيضاء تنبت و تنموا فوق ظهره حتى اكتملت وهو يشرعها مستقيمة مرتفعة على كل من جوانبه ، ثم أنحنى على ركبته الأمامية ليقبل المرج الأخضر الذى كان يملأ الساحة ثم تتابعت أزاوج الأجنحة تنخفض وتلامس الأرض ثم تتلاشى بعدها تباعا، زوجا تلو الآخر، حتى عاد  فرسا أبيضا منحنيا على قدمه الأمامية أمام الشجرة الكبيرة التى تتوسط الساحة الخضراء واستمر هكذا ولم يتحرك حتى تحدثت  الغابة من كل مكان من حوله وسط دهشة القردة التى كانت تراقب المشهد من حول الساحة، فقالت الغابة:

"ارفع رأسك أياها الصديق الغالى، ليس هذا ما يفعله الأصدقاء، مرحبا بك فى بيتك، وان كنت أعلم أنك تكره البيوت وتراها قبورا، لقد عرفتك منذ زمن طويل و معا اختبرنا و شاهدنا أحداثا وأهوالا ولكن هذه أول مرة تقف تحت ظلالى!

وهنا صهل الفرس وأًصدر صوتا أخاف كل القردة فتراجعت مبتعدة ن الساحة و تسلق بعضها جذوع الشجر و اختفى بين الأغصان و فى الفروع، فالريح وان تهذبت فى الكلام و تلاطفت تكره أن يقول لها أحدهم أنها "تقف" أويزيد و يقول" تحت ظلالى"!!
 عاد الفرس "هوور" يشرع جوانحه الستة ويتحرك ذهابا و إيابا حول جذع الشجرة الأم التى كانت فروعها تمتد لتغطى الساحة الخضراء مثل سقف أخضر رقيق فيجعل الساحة و كل ما فيها يتلألا بالون الأخضر، حتى الحصان "هوور" كان يرى أجنحته تمتد حوله خضراء اللون أو بيضاء تكاد ترى خضراء ولكن غيظه من لونها كان يصورها له  خضراء تماما فكان يتوقف لينفض عنه الريشات الخضراء ثم يتحرك ثانية لتنبت له أجنحة جديدة خضراء اللون وكان بالطبع كل هذا يزيد فيه الغيظ والحنق ولكنه لم ينسى أنه رسول النهر جاء ليلقى أمام الغابة كلمات النهر العظيم، فقال الفرس"هـوور":


[1] فى بعض الأحيان تنطق "سان راى" وفى أحيان أخرى تنطق "سان رع" وهذه اللهجة تختلف من حيوان لآخر.

[2]  الفرس "هوور":  عندما تركض الريح تتخذ صورة فرس شفاف، قليل من الكائنات التى تراه و تدرك شكله فالأمر يحتاج إلى قوة ملاحظة شديدة، وفى الحقيقة هذا النوع من قوة الملاحظة لم يكن عندى ،أو على الاقل  ليس بالصورة التى لدى الحيوانات التى رأت الفرس "هوور" وتحدثت عنه و أغلب الظن أنه مخلوق أسطورى تخيلته حيوانات البحيرة، ولكن الغريب أن حيوانات البحيرة التى ادعت بأنها تراه أو رأته جميعها تتفق فى وصف واضح و محدد عن ذلك المخلوق و هو أمر طالما حييرنى! فجميع الحيوانات اتفقت فى وصفه بأنه:

" هو فرس أبيض صغير أقرب فى حجمه إلى المهر(صغير الحصان) عن الفرس البالغ، له ثلاث أزواج من الأجنحة دائما تخفق مرفرفة من حوله ولا تكاد حوافر أرجله أن تطأ الأرض و هو يركض. لونه يكاد يكون شفاف فيجعله غير مرئى طالما هو يركض مسرعا ولكنه ما أن يتوقف حتى يتحول لونه أبيضا من سديم ضبابى والذى سرعان ما يعود شفافا نقيا ما أن  يتحرك، فحصان الريح"هـوور" لا يحب الوقوف و الثبات فى مكان واحد أبدا وهو دائم الحركة."

" عندما يتوقف الفرس "هـوور" عن الركض يستحيل فرسا عاديا غير مجنح، فأجنحته يتساقط عنها الريش و يذبل كما لو كانت أوراق شجرة أصابها الخريف بالمرض،  إلا أنها تعود و تنطلق ثانية ى اللحظة التى ينطلق فيها الفرس مسرعا."

"و الشيء الآخر الذى  يمز فرس الريح "هـوور"  هو القرنين الذان يتوجا قمة رأسه مثل ذكور الأيل، ولكن أحد قرناه كبير و كثير الفروع مثل شجرة صغيرة و الآخر مكسور، فالفرس "هـوور" يكره الجبال والصخور التى تعترض طريقه وهو أيضا لا يفعل مثل باقى الحيوانان فيتجنب الصخور التى تعترض طريقه و ينعطف من حولها بل يتملكه الكبر والعناد ويحاول تحطيمها بقرنيه و هكذا فقد الفرس أحد قرونه بعد أن حطمه له جبل من الصخر الصلب"

الاثنين، 12 مارس 2012

انتهىالجزء الربع من حكاية الغبة العتيقةا و هو الجزء السعيد من القصة.. ولو انى معرفش هل هناك اى حد مهتم باحداث القصة .. لكن اتمنى انه يكون فى.. الجزء الخامس بعنوان نهر النيل(الثعبان نالي-نوس)

الغابة العتيقة(الجزء الرابع)

1-   قردة البابون

"عاشت قردة البابون تمرح و تلهو فوق أغصان شجر "المووه" بعد أن صارت الغابة العتيقة موطنها الجديد، و كانت القردة تراقب الأشجار وهى  تسمعها وهى تتكلم إلى كل حيوان بلغته وليس الحيوانات وحسب بل الشمس والقمر و النجوم والرياح ،لم تكن القردة تفهم كلام الأشجار إلا أنها كانت مفتونة بأشجار الغابة العتيقة، كيف لها أن تعلم كل هذه اللهجات وكيف ومتى تعلمتها؟ و كيف تستطيع مخاطبة كل فصيل من الحيوانت بلغته ؟ وكيف تكلم الجماد من صخر وريح وغيوم؟ وبعد أن علمت القردة من الأشجار بأنها تستخدم لغة واحدة فى الحديث الى جميع المخلوقات- ازداد ولع القردة وافتتانها بلغة "المووه" و ما تخفيه كلماتها من حكمة وموعظة فطلبت القردة من أشجار الغابة العتيقة أن تعلمها منطق لغة "المووه"- اللغة الأم!"

" ووافقت الأشجار بعد أن عاهدتها القردة على أن لا تستعمل هذه اللغة فى غير الخير- فلغة المووه لغة مقدسة لخير و نفع كل الكائنات ولا يجب أن تستخدم فى الشر، وكذلك تعهدت القردة أن لا تكذب أبدا وهى تنطق بهذه اللغة.. .. ولقد قال أحد القردة مداعبا الشجر:
"حسننا لن نكذب بلغة "المووه" و لكنا لازلنا نستطيع أن نكذب و نحن نتحدث بلغة قردة البابون.. ان أردنا بالطبع.. .. أليس كذلك؟"
جاءته الأجابة من بعيد فى صوت أشبه بغناء جماعى لمجموعة من الطيور يغردون بنفس الموسيقى، وكلما التفت القرد للوراء ليرى مصدر الصوت استشعر الأنغام تأتيه من الخلف من حيث لا يراها.. كانت هكذا تتحدث الأشجار العتيقة وتهمس عندما تحدثت بلغة "المووه" ووقعت الكلمات فى أذن القرد الساخر بلغة البابون فقالت:
".. .. إن من يتحدث لغة الموووه.. سينسى كل لغات العالم.. .. وسيظل يذكر لغة المووه فى قلبه.. طالما قلبه يخفق وأنفاسه فى هذا العالم تتلاحق.. عندما تتعلمون لغة المووه.. سوف تنسون لغة آبائكم وأجدادكم.. .. ان اللغة مثل زهرة صغيرة.. ان لم تشرب الماء .. ذبلت وجفت وفى آخر النهار تموت.. والماء الوحيد الذى تسقى به لغة البابون لا يوجد الا فى أفواهكم.. و عندما تتركون الكلام بها.. ستذبل وتموت وستصبح لغتكم الوحيدة هى لغة المووه"
 ثم عم الصمت الغابة و تنقلت عيون القردة من قرد لقرد و قدملأتهم الحيرة التى اختلطت بالفرحة.. فلا بأس من سيحتاج لغة البابون اذا كان يستطيع الكلام مع كل شيىء فى العالم.. بابون أو غير بابون؟".. .. ثم عاد هسيس شجر الغابة ليسمع من حولهم و كانت كلامت الشجر تقول:
" ان تعاهدونى اليوم على أن لا تكذبوا بلغة المووه.. فانتم بذلك تعاهدونى على أن لا تنطقوا بالكذب أبدا".. .. لم تتردد القردة للحظة واحدة  وعاهدت الشجر ..  ..

 " وطوال ثلاثة أشهر من بعد ذلك الإجتماع كانت القردة تقضى النهار جالسة أسفل ظلال الأشجار تنصت لألحان وأصوات غريبة ولكن بديعة ،كانت تلك الأصوات هى حروف وكلمات اللغة المقدسة.. لم تكن لغة "المووه" صعبة على عكس ما قد يتخيل من يجهلها، كانت لغة بسيطة وسهلة، كثيرة الحروف والكلمات  ولكن كلماتها لا تنسى.. ودائما عندما تسمع كلمة وتعرف معناها لا تنساها مطلقا و بل و تشعر أنك قد سمعتها من قبل و ان هذه ليست أول مرة تسمعها، كذلك كانت قواعدها

وطريقة نطقها سلسة و بسيطة حتى  استشعرت القرود بعد أن تعلمتها بأن لغتها كانت دوما هى لغة "المووه" وأنها لم تعرف لغة غيرها.."

"بعد أن انقضت الثلاث أشهر صارت قردة البابون غير ما كانت عليه قبل أن تتعلم حكمة اللغة الأم.. فأصبحت حيوانات شديدة الحكمة و المعرفة ، و لم يعد صياحها و عوائها يملأ الغابة كما كانت من قبل تفعل ، بل أصبحت صامتة معظم الوقت .. قليلة الكلام، تستمع إلى أصوات وأخبار العالم فهى الآن تعرف لغة كل شيىء، وكانت فى المرات القليلة التى تتكلم فيها تخرج من أفواهها كلمات مثل الموسيقى ربما أقرب إلى صوت خرير الماء العذب أو مثل رياح متراقصة.. لا أحد يعلم  فلا يوجد هناك من سمع منطق تلك الكمات السحرية و لازال حيا  فيصفها لنا كيف كانت؟"

"كانت كل الحيوانات تنظر إلى القردة وتتعجب منها وتتساءل كيف تعلمت القردة هذه اللغة الصعبة ولماذا من دون كل حيوانات الغابة اختارت الأشجار قردة البابون لتعلمها.. ولكن الحقيقة التى غابت عن الجميع هى أن القردة كانت الكائنات الوحيدة التى سئلت الشجر أن تعلمها منطق "المووه" ولم يفعل من قبل ذلك أى حيوان أو كائن.. ..  وكانت القردة تعطف على حيوانات الغابة وتترأف بحالها فعلمتها بعض كلمات المووه الضرورية التى قد تحفظ حياتها وقت الخطر مثل: انى جائع.. انى عطشان..انى أشعر بالبرد.. أنقذونى"

كانت أشجار الغابة العتيقة ترى ما تفعله القردة مع باقى الحيوانات و تستحسنه وتشعر أنها أحسنت فى إختيار من استأمنتهم على لغة "المووه" فهم لا يمتازون فقط بالعقل الذكى و سرعة التعلم بل أيضا بالخلق الطيب، فكانت الحيوانات تلجأ إلى القردة فى وقت الضيق والمصائب طلبا فى العون والمشورة وكانت تسميها قردة البابون الناسك أو البابون الراهب، لأن القردة كانت تحب العزلة وتفضل الإنصات عن الكلام فهى تنصت لكل الأصوات التى لا تفهم الحيوانات معانيها.

الغابة العتيقة(الجزء الثالث)

1-   حكاية الغابة العتيقة
يرويها "الشيطان الأبيض"

"هـو هـو بـو بـو" هكذا قال الشيطان  ثم ضرب الهواء بجانحيه فاختفت للحظة ظلمة الليل تحت ستار من الريش الأبيض الذى يكسو جناحا الشيطان ليهبط فوق غصن شجرة قريب من عش صغاره، ثم تحرك عبر الفرع وهو يحاذى بقدميه على امتداد الفرع مقتربا من العش الكبير الذى تجلس داخله ثلاث أفراخ صغيرة لطائر البوم. سرعان ما تعرفت صغار طائر البوم على أمهم وأيضا ميّزت رائحة الطعام الشهى التى عادت تحمله الأم فى منقارها من أجلهم.

تناول الصغار وجبة العشاء بنهم شديد وبعد أن استشعرت الأم الشبع فى عيون كل طفل منهم أخذت تلتقط فتات الطعام بمنقارها وتجمع قطع اللحم الصغيرة التى تناثرت فى العش  وتناولت ما كان يصلح منها للأكل و أما الباقى قذفت به بعيدا من فوق العش. فالبومة تحرص دائما على نظافة عشها شأنها فى ذلك مثل كل الطيور. وبعد ان انتهت البوم من تنظيف ريشها الأبيض التفتت إلى صغارها لتجد ثلاث أزواج من العيون الكبيرة تحدق نحوها!

عرفت البومة الأم هذه النظرة .. انها نظرة لا تنم عن جوع أو شبع بل عن عدم رغبة فى النوم .. فلقد كانت البوم تأمل أن العشاء الدسم الذى تناوله الصغار للتو سيرسلهم سريعا إلى فراشهم وأحلامهم الصغيرة. ولكن كل هذه الأمنيات تلاشت عندما رأت الصغار الثلاث  يحدقون نحوها وعيونهم تجحظ نحوها باتساع، و من قبل ذلك كانت البوم الأم تأمل بأن ليلة الصيد سوف تنتهى مع وجبة العشاء ولذلك حاولت محاولة أخيرة مع الصغار وهى حيلة كانت قد تعلمتها من إحدى صديقاتها البوم؛ نظرت البوم الأم إلى الصغار وأخذت تحدق فيهم ببصرها الحاد والثاقب و بشكل تدريجى وبطيء حاولت إرخاء جفونها كما لو كانت تستشعر النعاس! .. فلقد قالت لها صديقتها " إن النعاس معدى" وأخبرتها بأن هذه الحيلة كانت دوما تنجح معها طوال ثلاث أجيال من الأبناء.
ثم عادت البوم لتفتح عينها كما لو كانت تنتبه ثانية لصغارها أو تدعى أنها تقاوم النوم بينما نظرها الثاقب لا يزال مثبتا نحو صغارها الثلاث عادت وبشكل تدريجى لترخى أجفانها كما لو كانت تستشعر النوم من جديد، وفى الحقيقة بدأ النعاس يتسرب نحوها ببطء.. ولكن لا بأس .. مضت دقيقة كاملة أغمضت فيها البوم عينها دون أن تصدر عنها أى حركة فيما عدا بعض الريشات البيضاء فى جانحيها وحول رأسها الكبير والتى تراقصت مع مداعبة نسيم اليل لها.. ثم عادت البوم لتفتح عينيها فى حركة مفاجئة لتجد ثلاث أزواج من العيون الصغيرة لا تزال تحدق نحوها بنفس الاتساع – السهر - التركيز.

بالرغم من اتقان البوم الأم الشديد هذه المرة للحيلة إلا أنها لم تخدع صغارها.. .. أخذت الأم نفسا عميقا وأخرجته فى بطء وهى تستشعر أنتصار صغارها عليها فى لعبة النوم و الأستيقاظ، وقالت :
" حسنًا.. .. سنحكى حكاية". وبسرعة تقافز الأبناء حول أمهم التى دخلت الآن وسطهم فى العش وضمتهم بين جناحيها حتى أصبح لا يكاد يرى من الصغار  سوى رأسهم ، وهى فى الحقيقة لا تفعل سوى حيلة أخرى كانت قد تعلمتها من صديقة لها؛.. "إجعليهم يشعرون بالدفء.. .. إن الدفء يدفع إلى النعاس .. والنعاس يعنى النوم.. و نومهم راحة لنا" ولكن حتى هذه الحيلة لم تفلح مع فراخ البوم العنيدة.

قالت البـــــــــــوم الأم : "أى حكاية تحبون سماعها الليلة؟"
فرد فرخ البوم الأرقط : حكاية السمكة كيـ كـار".
وقفز الأخ الأبيض وقال وهو يدفع رأسه من بين ريشات أمه: "لا بل نريد أن نسمع حكاية الثعبان الكبير "هيلانوس" وبط البحيرة".
قالت البـــــــــــوم الأم : "وماذا عن حكاية الأفراخ الثلاثة التى ظلت مستيقظة وقابلت  سيد ريح المساء البغيض؟"
فرد الأرقط : " أنا أكره هذه الحكاية! لا أظن أن هناك مثل هذا المخلوق"
قالت الأم محدثة نفسها: "لقد فشلت حيلتى الأخيرة ولم يعد أمامى سوى سرد حكاية طويلة حتى ينام الصغار." وعندها نظرت البوم الأم نحو البومة الصغيرة التى لم تتكلم بعد و طلبت حكاية بعينها وربما قد فعلت ولكن بصوت خافت فلم يكد يسمع حديثها وسط صياح إخوتها الذكور.
فقالت البوم الأم و قد أحنت رأسها نحو صغيرتها: "وماذا عن أميرتى الصغيرة- ماذا تود أن تسمع الليلة أميرتنا البيضاء؟"
ترددت البومة الصغيرة وكادت لتنظر نحو الأسفل لولا أن أعادت أمها رفع رأسها لأعلى بمنقارها وقالت فى تشجيع لها :" ألا توجد حكاية مميزة تود أن تسمعها الأميرة البيضاء؟"
قالت البومة الصغيرة وهى تدري رأسها فى حركة تنم عن الحيرة القلق: "هـي هـي بى بيى.. ربما حكاية الغابة العتيقة" وعندها قفز الأخوين معا صائحين و نطقا بنفس الكلمات: "هوم .. هوم"- "ماذا .. ماذا؟" ثم قال الأرقط : "لقد كانت تلك حكاية الأمس!!"
لم تهتم الأم لما قاله الصبية و فى الحقيقة كانت سعيدة  عندما تكلمت صغيرتها البيضاء فهى تريد تربيتها على الإقدام و المشاركة.. فهى تعلم أن عش أحفادها سوف تأسسه ابنتها الصغيرة و ليس اختوها الذكور و هى دون عن اخوتها من ستتولى تربية الأحفاد و كانت الأم تتمنى لو أن لإبنتها أخت شقيقة لتقف إلى جوارها أمام إخوانها الذكور و تدعمها ولكن طالما لم يتحقق هذا فستكون الأم بمثابة الأخت الكبيرة لإبنتها وستقف إلى جانب الأميرة البيضاء فى مواجهة الفرخ الأرقط والأبيض.

قالت الأم : "إذن هى حكاية الغابة العتيقة"
وعندها قال فرخ البوم الأبيض: "إذن لنستمع لها  من البداية هذه المرة"
فنظر الأرقط إلى أخاه دون أن يتكلم و قد ارتسم على عينيه تعبير من يقول "  متى تتعلم كيف تثبت على رأى؟" ولكنه سرعان ما تناسى خسران دعم أخيه لموقفه وحاول أن يتخذ وضعية جلوس مريحة كالتى سبقه أخويه فيها أسفل جناح أمهم قبل أن تبدأ الحكاية"

أطرقت البوم الأم ببصرها نحو القمر الذى بدأ ينفض عن رأسه سحبا من الغيوم العالقة من حوله كما لو كان يريد أن يكون معهم يستمع إلى الحكاية، ولكن الأم و صغارها لم يسعدا بهذا النور الشديد الذى ملأ المكان من حولهم، فالصغار يحبون أن يسمعون الحكايات فى الظلام و كذلك الأم تحب الظلام لأنه يساعد على النوم، ولكن الأم إطمأنت بعد أن رأت سربا جديدا من الغيوم الرمادية يتقدم نحو القمر وعرفت أن المكان سيعود ليخيم عليه الظلام ثانية.
وأدركت أن أول الحكاية ستسرده على الصغار فى ضوء القمر بينما البقية سيسمعها الصغار فى ظلام الليل وهو ما يتناسب تماما مع أحداث الحكاية- وهذا بالنسبة لرواية طيور البوم للحكاية.
عادت الأم لتنظر نحو صغارها الثلاث واستقرت عينها  على صغيرتها و هى تبدأ فى سرد الحكاية فقالت:
"بــــوم..بـــوم.. هــــوم.. هــــوم".. فى قديم الزمان بعيدا بعيدا فى الماضى قبل أن يولد الآباء أو الأجداد...فى ذلك الزمان كانت الأرض غير الأرض و السماء غير السماء"
نظرت البوم الأم بعيدا فى الأفق نحو بحيرة التماسيح حيث يتلأ فوق سطح مياها و يتراقص قمر ثان أقل ضياءا من قمر السماء و قالت:
" فى ذلك الوقت لم تكن هناك بحيرة كبيرة ومليئة بالتماسيح .. ..  بل غابة عظيمة تعج بكل أنواع الشجر! .. .. وحتى  تلك الأشجار لم تكن مثل أشجار اليوم التى نعيش فيها.. بل كانت أشجار ضخمة وهائلة الارتفاع و كانت فروعها وأغصانها المتشابكة تحجب نور الشمس وأشعتها عن  قاع الغابة، فأصبح العالم أسفل تلك الأشجار يغرق فى ظلام دامس فى النهار والليل .. وكانت حيوانات الغابة تسير أسفل الأشجار وفى أكثر ساعات النهار إشراقا و هى تتحسس طريقها فى الظلام لا ترى من الشمس أى أثر سوى بعض لنجوم الصغيرة والذهبية تتلألأ بين أوراق وأغصان الأشجار العملاقة."

قال فرخ البوم الأرقط : " هل كانت أشجار الغابة كبيرة مثل شجرتنا؟"

ردت الأم قائلة: " لا بل كانت أشجارها أكبر من أى شجرة نعرفها أو شاهدناها وكانت الشجرة الواحدة من تلك الغابة ترتفع  فى السماء مثل  أربعة نخلات بالغة تعلو احدها الأخرى و بعض الحيوانات تدعى أن  ارتفاعها كان يبلغ سته من أشجار النخيل معا."

قالت البومة الصغيرة: " مثل شجرة النسور العملاقة فى منتصف بحيرة التماسيح؟"

ابتسمت لها الأم وقالت : "نعم .. بالضبط.. تماما مثل شجرة النسور العملاقة فى بحيرة التماسيح.. والحقيقة هى أن هذه الشجرة بالتحديد كانت من أشجار الغابة العتيقة وهى الوحيدة التى بقيت منها."

قال فرخ البوم الأبيض: "أمى لقد وعدتى بأن تحكيها من البدايه.. وها أنتى الآن تقفزين نحو النهاية."

قالت الأم مبتسمة للصغير: " معك حق..ولكنى لم أرد القفز نحو النهاية .. فقط أردت أن أجيب عن أسئلة أخوتك.. وأعدك من الآن و صاعدا سأحكى الحكاية بالترتيب من البداية و حتى النهاية .. "

قال الفرخ لأمه: حسنا" ثم نظر إلى أخوته  كمن يستعطفهم ويتوسل لهم : " رجاءا لا تقاطعوها.. سوف تحكى الحكاية بالترتيب من البداية و حتى النهاية .. " .. قالت الأم و هى تربت على رؤوس أبنائها  بجناحيها خوفا من مشاجرة ليلية .. " حسنا لا مقاطعات .. "ثم أكملت قائلة :

"قديما كانت غابة الأشجار الضخمة تغطى كافة أرض البحيرة و تمتد فوق شواطئها وإلى مسافات شاسعة فى البرية، كانت تسكن الغابة أشجار حكيمة ومعمرة قديمة قدم الزمان، و كانو يسمونها أشجار "المووه" (The Mouh)، اكتسبت حكمتها من بقائها على مر السنين والأجيال تشاهد تتابع الفصول ومواسم المطر والجفاف وكان العالم يتغير من حولها وهى فى مكانها شامخة، كانت أشجار الغابة قوية تضرب جذورها عميقا عميقا فى الأرض، لم تعرف أشجار الموه الهرم أبدا وكانت دائمة الخضرة والنضارة .. حالها فى الصيف كحالها فى الشتاء ولا تتساقط أوراقها إلى فى أيام قليلة من العام، كما كانت ثمارها حلوة المذاق وكانت تلقلى بها للحيوانات على الأرض طوال العام فلا يتكبدون مشقة صعود الأشجار أو تسلق الأغصان، وكان الحيوان الذى يقضم احدى ثمارها يستشعر الشيع لمدة فصل كامل من العام و اذا أكمل الثمرة لم يعرف الجوع أبدا طوال عمره.."

".. ولكن كل هذه الأشياء لم تكن سر تميز أشجار الغابة العتيقة.. فلقد كانت تلك الأشجار حية بمعنى الكلمة.. وكانت تتحدث اللغة الأم – لغة "المووه" أو لغة كل الأشياء كما كانوا يسمونها وقتها.. لا أحد الآن يعرف هذه اللغة التى رحلت عن العالم منذ وقت طويل مضى.. ولا أحد يعرف كيف كانت أصوات كلماتها.. ولكن كلمات "المووه" كانت كلها حكيمة وجميلة.. وصوتها عذب.. لم تكن حيوانات الغابة فى ذلك الزمان تفهم لغة "المووه" ومع ذلك كانت تبكى عندما تستمع إلى الأشجار وهى تتحدث بها إلى الريح .."

".. كانت أشجار الغابة تتحدث إلى الحيوانات بلغتها.. فتفهمها الحيوانات وتتردد فى آذانهم كلمات الشجر بلسان الحيوان عندما تريد الأشجار أن تخاطب الحيوانات .. فمن يعرف لغة "المووه" يستطيع الكلام مع من يشاء بلغته.. فكما كان يقال وقتها كانت لغة "المووه" هى اللغة الأم ولغة كل الأشياء.. "

" فى إحدى ليالى الشتاء المطيرة نزلت بأرض الغابة قبيلة من قردة البابون.. كان قد أعياها رحلة طويلة من السفر وسط البرية و طاردهم المطر وأهلك منهم الكثير حتى نزلوا بأرض الغابة.. وهناك طلبوا من اشجار الغابة أن تحميهم وتظلهم من المطر وان شاءت أبقتهم أسفل ظلالها حتى ينقضى الشتاء.. وكانت أشجار "المووه" رحيمة القلب وكريمة معهم – فتحدثت الى غيوم الشتاء بلغة "المووه" بأن تترفق بصغار المسافرين وتمنحهم ليلة جافة ودافئة ولا بأس من عمل الليل من مطر أن يستكمل فى النهار وأجابت قردة البابون بلغة البابون وخاطبتهم بأن لهم أن يمكثوا تحت ظلالها ماشاؤو- وان شاؤو قضوا الشتاء هنا ويرحلوا فى الصيف إلى سفرهم أو يبقوا فى ضيافة الغابة كما يحلوا لهم من وقت.. وألقت أشجار الغابة تحت أقدامهم ثمارا لم يرا القردة لها من مثيل قط لا فى الرائح و لا فى اللون ولا فى المذاق.. وبعد أن أكل القردة و شبعوا.. تمايلت فروع الأشجار وهبطت الى الأرض تحمل القردة الى الأعلى فلا تتكبد مشقة تسلق الجذوع العالية وجعلت الأشجار من أغصانها بيوتا للقردة.. فى تلك الليلة نامت القرود من الفرح و السعادة الغامرة التى كانت تملأها وليس من التعب ومشقة السفر  وكل منهم تسائل فى نفسه .. أيا كان المكان الذى قصدوه بسفرهم فإنهم بلغوا أجمل مكان فى العالم وما كان لقرد عاقل أن يغادر مثل هذا المكان الجميل لأى سبب كان.. وفى صباح اليوم التالى كان كل القردة قد عقدوا العزم على البقاء فى غابة "المووه" إلى الأبد.. ولقد رحبت أشجار الغابة بهم و عدت.."

الغابة العتيقة (الجزء الثانى)

1-   العهد القديم

تعود أحداث هذه الحكاية إلى زمن قديم وعتيق،  وفى الحقيقة لم يكن من السهل كتابة هذه القصة أو معرفة ما حدث بالفعل؟ فلا يوجد اليوم فى البحيرة من الحيوانات من عاش أحداث هذه الحكاية ولا زال حيا ليرويها فيما عدى كائن واحد فقط! ولكنه منذ زمن بعيد فضل الصمت ولم تسمع الحيوانات صوته منذ سنين بعيدة مضت.

أما باقى حيوانات البحيرة، فلقد كانت هى سبب معاناتى فى جمع أحداث هذه الحكاية، فلم أجد أى فصيلة من الحيوانات تتفق فى روايتها للحكاية - ولكل منها حكايتها الخاصة وأحداثها بل وحتى الأبطال يختلف بعضهم من فصيلة لأخرى وإن كانت جميع الحكايات تحمل نفس الاسم "حكاية الغابة العتيقة"! فالطيور مثلا تحكى الحكاية بشكل مختلف تماما عن التماسيح وحتى داخل نفس الفصيلة الواحدة تختلف نهايات أحداث الحكاية بين العائلات والأسر.

ولقد أخبرنى أحد فئران البحيرة، بأن صغار الحيوانات إذا ما تاهت وضلت طريقها و لم يستدل من الصغير الضائع عن عش أو جحر عائلته، حيث أن وصف التضاريس والأماكن ليس من الأمور اليسيرة على كبار الحيوانات فكيف الأمر بصغارها؟- ولذلك كانت الحيوانات التى تعثر على الصغير الضال تسئله عن حكاية الغابة العتيقة و كيف كانت أمه ترويها له؟ ومن خلال سرد الصغير لها وبشكل خاص الجزء المتعلق بنهايتها يمكن التعرف على عائلة الصغير الضال  وإعادته لأسرته، فصغار الحيوانات كلهم يحفظون مثل هذه الحكايات بشكل جيد وبخاصة حكاية الغابة العتيقة التى تعتبر حكاية ما قبل النوم لجميع صغار البحيرة.

فى البداية عندما فكرت فى كتابة هذه الحكاية أردت أن أجمع كل نسخها من كافة حيوانات البحيرة ولكن ربما لو كنت مشيت فى هذا الطريق كنت سأنتهى إلى كتاب ضخم يحتوى عل حكاية واحدة تختلف تفاصيلها فى كل مرة.ولكن فى النهاية وجدت أنه لا بأس من اختيار رواية فصيلة واحدة من حيوانات البحيرة وعرض الحكاية كما ترويها الأمهات لأطفال تلك الفصيلة بعينها. وعنده لم أتردد  فى إختيار " الشيطان الأبيض" أو "بومة الليل البيضاء" لأنقل الحكاية عن روايتها، فأفضل حكايات ما قبل النوم على الإطلاق هى تلك التى تحكيها بومة لا تمل السهر.