السبت، 31 مارس 2012

الحية والراهب

تمتلئ القرى الجبلية بحكايات غريبة عن غدر الثعابين ومكرها، ربما كانت كل تلك الحكايات صحيحة بالفعل، وربما لم تكن كلها تروى الحقيقة كاملة والدليل على هذا هو إحدى القصص التى حدثت فى قرية بعيدة ونائية وسط الجبال.

فمنذ زمن طويل كانت تتسلل إلى بيوت القرية عندما يحل الظلام أفعى ضخمة سوداء، كانت تدخل البيوت عبر شقوق الجدران ومن أسفل فتحات الأبواب،  وكانت تقتات على فتات الطعام الذى يتركه البشر فى القدور، وكانت تلك الحية تكره البشر و تبغضهم فكانت لا ترى قدر طعام أو جرة ماء أو لبن حتى تنفث فيها السم ليموت أهل الدار فى صباح اليوم التالى من زيارتها الليلية.

بحث أهل القرية عنها وفتشوا فى كل جحر فى القرية و حولها  وقتلوا كل الثعابين والعظات التى  وجودها فى الجحور ومع ذلك ظللوا متيقنين أنهم لم يصلوا غايتهم فلا زال أهل القرية يموتون بسبب عادة الحية البغيضة من بث السم فى القدور بعد سرقة ما بها من طعام، ومها حرص أهل القرية  على تغطية قدور الطعام قبل النوم كانوا كثيرا ما يستيقظون على صوت تحطم أحدى أوانى الطعام الفخارية بعد أن حاولت الحية تسلقه و كشف غطائه، ومع ذلك لم يرها أو يدركها أحد حية، فلقد كانت الماكرة بالرغم من ضخامتها تجيد الاختباء والمراوغة.

وظلت القرية على هذه الحالة حتى قررت الأفعى أن تزور منزل فقير فى طرف القرية، كان المنزل يسكنه راهب عجوز أعمى يعيش بمفرده،  كان منزلا بسيطا و متواضعا من غرفة وفناء يتوسطه بئر ماء، لم تجد الحية فى منزل الراهب أى جرة أو طعام أو حتى قدر، فلقد كان الراهب يقضى الليل فى التعبد وفى النهار كان ينزل إلى القرية و تناول الطعام فى أحد بيوت أهل القرية، ولم يكن فى داره شيئا سوى البئر القديم و بعض الثياب الرثة، ومع ذلك استشعرت الحية الدفء والطمأنينة فى تلك الدار،فعزمت الحية أن تتخذها مسكننا لها كى تضع فيه بيضها فى أحد شقوق جدار الدار خاصة بعد أن اطمئنت إلى أن العجوز  لن يراها أبدا فهو أعمى – وهى من قبل قد خدعت المبصرين من أهل القرية.

عاش كلاهما فى نفس المنزل و الراهب العجوز لا يعلم عنها شيئا، بالنهار ينزل العجوز إلى القرية فيطعمه أهلها و بالليل تنزل الحية فتأكل فتات الطعام و تضع السم فى طعام أهل القرية. واستمر هذا الحال حتى بعد أن وضعت الحية اثنتا عشر بيضة فى شق طولى بين جدار الحائط وأرض دار العجوز، وفى ليلية عادت الحية الى دار الراهب و لم تجد بيضها فى الشق! فتشت الحية عنهم فى الدار  فلم تجدهم ونظرت إلى العجوز  فوجدته فى نوم وسبات عميق، فاغتاظت منه وأرادت الانتقام، لقد كانت الحية تعلم أن الدار تخلو من أى إناء أو قدر ، فاتجهت إلى فناء الدار و تسلقت  بئر الماء الذى اعتاد الراهب أن يشرب منه و نفثت فى مياهه كل ما كان فى جوفها من سم، ونظرت ألى مياه البئر الصافية وهى تتعكر وتختلط بقطرات السم الفضية و شاهدت فوق صفحة مياه البئر صورة الراهب العجوز وهو يتلوى من الألم و ينازع آلام الموت بعد أن يشرب  من ماء البئر فى الصباح.. ومع ذلك ظلت الحية تشعر بالغيظ والكره نحو العجوز فعادت تتسلل إلى الدار،  وهى تتمنى لو أن لها أنياب حادة فتغرز ها فى قدم العجوز العارية و تضع سمها فيه مباشرة، ولكنها قد فقدت أسنانها منذ زمن طويل ولا تستطيع سوى بث السم فى الطعام و القدور.

وعندما تقلب الراهب العجوز فى منامه - انتبهت الحية إلى قدر طعام لم تلحظه من قبل، كان الراهب قد وضعه بينه و بين الجدار وأخفاه بعناية وسط حشوات من ملابسه البالية كما لو كان يخفى داخله طعاما طيبا أو شيئا ثمينا، هرعت الحية على الفور نحو الإناء لتفعل فيه ما فعلته فى البئر ، ولكنها لم تجد فيه سوى  بيضاتها الإثنى عشر التى  كانت من قبل قد وضعتها فى شق الجدار، وقد أحاطها الراهب العجوز بثيابه البالية كى يمنحها الدفئ ، فرحت الحية فرحا عظيما و فرحتها تطايرت سريعا عندما تذكرت البئر وما قذفت فيه من سم  وكيف سهلك العجوز الأعمى عندما يشرب منه فى الصباح.

هرعت الحية نحو فناء الدار تستبق الصباح تحاول أن تجد سبيلا تتدارك به خطئها، فما كان منها إلا أن التفت بجسمها الضخم الطويل حول البئر، وصارت تضغط على حجارته المتراصة فى شكل دائرى حول الفتحة، من قبل اعتادت الحية أن تقوم بهذا التصرف عندما تريد ان تكسر جرة  اخفى فيها البشر طعاما لهم وأحكموا إغلاقها، ولكن حجارة البئر كانت قوية و صلبة أقوى من أى جرة كسرتها الحية من قبل، ومع ذلك تحاملت الحية واعتصرت جدران البئر حتى استطاعت أن تلتقم ذيلها بفمها وأخذت تجذب فيه طوال ما بقى من ليل و مع بزوغ الفجر كانت قطع الحجارة حول البئر  قد تدحرجت من مكانها وهوت فى مياه البئر المسمومة، أما الحية فماتت تحت وطئة الحجارة بعد أن ابتلعت نصف ذيلها و تكسرت عظامها.

وفى الصباح اكتشف أهل القرية كل ما حدث فى المساء بعد أن استدعاهم الراهب الأعمى لينظروا أين اختفى البئر، ولما علم الراهب ما كان من الحية ، احتفظ بالثنى عشر بيضة حتى فقسوا جميعا  وحملهم فى طيات ملابسه وأطلقهم فى البرية ولكن أهل القرية تتبعوه فى صمت دون أن يراهم وقاموا بالتقاط الأفاعى الصغيرة وقتلوها جميعا ولم يخبره أحدهم بما فعلوا.

ومن بعد ذلك مضت الأيام قليلة قبل أن يفارق الراهب الحياة ويوصى بأن يدفن فى بئر منزله، ولما سئله أهل القرية و هو ينازع الموت :

" أو تدفن وسط السم؟"
أجابهم:
" بل وســــــط الحــب"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق