الاثنين، 12 مارس 2012

الغابة العتيقة(الجزء الثالث)

1-   حكاية الغابة العتيقة
يرويها "الشيطان الأبيض"

"هـو هـو بـو بـو" هكذا قال الشيطان  ثم ضرب الهواء بجانحيه فاختفت للحظة ظلمة الليل تحت ستار من الريش الأبيض الذى يكسو جناحا الشيطان ليهبط فوق غصن شجرة قريب من عش صغاره، ثم تحرك عبر الفرع وهو يحاذى بقدميه على امتداد الفرع مقتربا من العش الكبير الذى تجلس داخله ثلاث أفراخ صغيرة لطائر البوم. سرعان ما تعرفت صغار طائر البوم على أمهم وأيضا ميّزت رائحة الطعام الشهى التى عادت تحمله الأم فى منقارها من أجلهم.

تناول الصغار وجبة العشاء بنهم شديد وبعد أن استشعرت الأم الشبع فى عيون كل طفل منهم أخذت تلتقط فتات الطعام بمنقارها وتجمع قطع اللحم الصغيرة التى تناثرت فى العش  وتناولت ما كان يصلح منها للأكل و أما الباقى قذفت به بعيدا من فوق العش. فالبومة تحرص دائما على نظافة عشها شأنها فى ذلك مثل كل الطيور. وبعد ان انتهت البوم من تنظيف ريشها الأبيض التفتت إلى صغارها لتجد ثلاث أزواج من العيون الكبيرة تحدق نحوها!

عرفت البومة الأم هذه النظرة .. انها نظرة لا تنم عن جوع أو شبع بل عن عدم رغبة فى النوم .. فلقد كانت البوم تأمل أن العشاء الدسم الذى تناوله الصغار للتو سيرسلهم سريعا إلى فراشهم وأحلامهم الصغيرة. ولكن كل هذه الأمنيات تلاشت عندما رأت الصغار الثلاث  يحدقون نحوها وعيونهم تجحظ نحوها باتساع، و من قبل ذلك كانت البوم الأم تأمل بأن ليلة الصيد سوف تنتهى مع وجبة العشاء ولذلك حاولت محاولة أخيرة مع الصغار وهى حيلة كانت قد تعلمتها من إحدى صديقاتها البوم؛ نظرت البوم الأم إلى الصغار وأخذت تحدق فيهم ببصرها الحاد والثاقب و بشكل تدريجى وبطيء حاولت إرخاء جفونها كما لو كانت تستشعر النعاس! .. فلقد قالت لها صديقتها " إن النعاس معدى" وأخبرتها بأن هذه الحيلة كانت دوما تنجح معها طوال ثلاث أجيال من الأبناء.
ثم عادت البوم لتفتح عينها كما لو كانت تنتبه ثانية لصغارها أو تدعى أنها تقاوم النوم بينما نظرها الثاقب لا يزال مثبتا نحو صغارها الثلاث عادت وبشكل تدريجى لترخى أجفانها كما لو كانت تستشعر النوم من جديد، وفى الحقيقة بدأ النعاس يتسرب نحوها ببطء.. ولكن لا بأس .. مضت دقيقة كاملة أغمضت فيها البوم عينها دون أن تصدر عنها أى حركة فيما عدا بعض الريشات البيضاء فى جانحيها وحول رأسها الكبير والتى تراقصت مع مداعبة نسيم اليل لها.. ثم عادت البوم لتفتح عينيها فى حركة مفاجئة لتجد ثلاث أزواج من العيون الصغيرة لا تزال تحدق نحوها بنفس الاتساع – السهر - التركيز.

بالرغم من اتقان البوم الأم الشديد هذه المرة للحيلة إلا أنها لم تخدع صغارها.. .. أخذت الأم نفسا عميقا وأخرجته فى بطء وهى تستشعر أنتصار صغارها عليها فى لعبة النوم و الأستيقاظ، وقالت :
" حسنًا.. .. سنحكى حكاية". وبسرعة تقافز الأبناء حول أمهم التى دخلت الآن وسطهم فى العش وضمتهم بين جناحيها حتى أصبح لا يكاد يرى من الصغار  سوى رأسهم ، وهى فى الحقيقة لا تفعل سوى حيلة أخرى كانت قد تعلمتها من صديقة لها؛.. "إجعليهم يشعرون بالدفء.. .. إن الدفء يدفع إلى النعاس .. والنعاس يعنى النوم.. و نومهم راحة لنا" ولكن حتى هذه الحيلة لم تفلح مع فراخ البوم العنيدة.

قالت البـــــــــــوم الأم : "أى حكاية تحبون سماعها الليلة؟"
فرد فرخ البوم الأرقط : حكاية السمكة كيـ كـار".
وقفز الأخ الأبيض وقال وهو يدفع رأسه من بين ريشات أمه: "لا بل نريد أن نسمع حكاية الثعبان الكبير "هيلانوس" وبط البحيرة".
قالت البـــــــــــوم الأم : "وماذا عن حكاية الأفراخ الثلاثة التى ظلت مستيقظة وقابلت  سيد ريح المساء البغيض؟"
فرد الأرقط : " أنا أكره هذه الحكاية! لا أظن أن هناك مثل هذا المخلوق"
قالت الأم محدثة نفسها: "لقد فشلت حيلتى الأخيرة ولم يعد أمامى سوى سرد حكاية طويلة حتى ينام الصغار." وعندها نظرت البوم الأم نحو البومة الصغيرة التى لم تتكلم بعد و طلبت حكاية بعينها وربما قد فعلت ولكن بصوت خافت فلم يكد يسمع حديثها وسط صياح إخوتها الذكور.
فقالت البوم الأم و قد أحنت رأسها نحو صغيرتها: "وماذا عن أميرتى الصغيرة- ماذا تود أن تسمع الليلة أميرتنا البيضاء؟"
ترددت البومة الصغيرة وكادت لتنظر نحو الأسفل لولا أن أعادت أمها رفع رأسها لأعلى بمنقارها وقالت فى تشجيع لها :" ألا توجد حكاية مميزة تود أن تسمعها الأميرة البيضاء؟"
قالت البومة الصغيرة وهى تدري رأسها فى حركة تنم عن الحيرة القلق: "هـي هـي بى بيى.. ربما حكاية الغابة العتيقة" وعندها قفز الأخوين معا صائحين و نطقا بنفس الكلمات: "هوم .. هوم"- "ماذا .. ماذا؟" ثم قال الأرقط : "لقد كانت تلك حكاية الأمس!!"
لم تهتم الأم لما قاله الصبية و فى الحقيقة كانت سعيدة  عندما تكلمت صغيرتها البيضاء فهى تريد تربيتها على الإقدام و المشاركة.. فهى تعلم أن عش أحفادها سوف تأسسه ابنتها الصغيرة و ليس اختوها الذكور و هى دون عن اخوتها من ستتولى تربية الأحفاد و كانت الأم تتمنى لو أن لإبنتها أخت شقيقة لتقف إلى جوارها أمام إخوانها الذكور و تدعمها ولكن طالما لم يتحقق هذا فستكون الأم بمثابة الأخت الكبيرة لإبنتها وستقف إلى جانب الأميرة البيضاء فى مواجهة الفرخ الأرقط والأبيض.

قالت الأم : "إذن هى حكاية الغابة العتيقة"
وعندها قال فرخ البوم الأبيض: "إذن لنستمع لها  من البداية هذه المرة"
فنظر الأرقط إلى أخاه دون أن يتكلم و قد ارتسم على عينيه تعبير من يقول "  متى تتعلم كيف تثبت على رأى؟" ولكنه سرعان ما تناسى خسران دعم أخيه لموقفه وحاول أن يتخذ وضعية جلوس مريحة كالتى سبقه أخويه فيها أسفل جناح أمهم قبل أن تبدأ الحكاية"

أطرقت البوم الأم ببصرها نحو القمر الذى بدأ ينفض عن رأسه سحبا من الغيوم العالقة من حوله كما لو كان يريد أن يكون معهم يستمع إلى الحكاية، ولكن الأم و صغارها لم يسعدا بهذا النور الشديد الذى ملأ المكان من حولهم، فالصغار يحبون أن يسمعون الحكايات فى الظلام و كذلك الأم تحب الظلام لأنه يساعد على النوم، ولكن الأم إطمأنت بعد أن رأت سربا جديدا من الغيوم الرمادية يتقدم نحو القمر وعرفت أن المكان سيعود ليخيم عليه الظلام ثانية.
وأدركت أن أول الحكاية ستسرده على الصغار فى ضوء القمر بينما البقية سيسمعها الصغار فى ظلام الليل وهو ما يتناسب تماما مع أحداث الحكاية- وهذا بالنسبة لرواية طيور البوم للحكاية.
عادت الأم لتنظر نحو صغارها الثلاث واستقرت عينها  على صغيرتها و هى تبدأ فى سرد الحكاية فقالت:
"بــــوم..بـــوم.. هــــوم.. هــــوم".. فى قديم الزمان بعيدا بعيدا فى الماضى قبل أن يولد الآباء أو الأجداد...فى ذلك الزمان كانت الأرض غير الأرض و السماء غير السماء"
نظرت البوم الأم بعيدا فى الأفق نحو بحيرة التماسيح حيث يتلأ فوق سطح مياها و يتراقص قمر ثان أقل ضياءا من قمر السماء و قالت:
" فى ذلك الوقت لم تكن هناك بحيرة كبيرة ومليئة بالتماسيح .. ..  بل غابة عظيمة تعج بكل أنواع الشجر! .. .. وحتى  تلك الأشجار لم تكن مثل أشجار اليوم التى نعيش فيها.. بل كانت أشجار ضخمة وهائلة الارتفاع و كانت فروعها وأغصانها المتشابكة تحجب نور الشمس وأشعتها عن  قاع الغابة، فأصبح العالم أسفل تلك الأشجار يغرق فى ظلام دامس فى النهار والليل .. وكانت حيوانات الغابة تسير أسفل الأشجار وفى أكثر ساعات النهار إشراقا و هى تتحسس طريقها فى الظلام لا ترى من الشمس أى أثر سوى بعض لنجوم الصغيرة والذهبية تتلألأ بين أوراق وأغصان الأشجار العملاقة."

قال فرخ البوم الأرقط : " هل كانت أشجار الغابة كبيرة مثل شجرتنا؟"

ردت الأم قائلة: " لا بل كانت أشجارها أكبر من أى شجرة نعرفها أو شاهدناها وكانت الشجرة الواحدة من تلك الغابة ترتفع  فى السماء مثل  أربعة نخلات بالغة تعلو احدها الأخرى و بعض الحيوانات تدعى أن  ارتفاعها كان يبلغ سته من أشجار النخيل معا."

قالت البومة الصغيرة: " مثل شجرة النسور العملاقة فى منتصف بحيرة التماسيح؟"

ابتسمت لها الأم وقالت : "نعم .. بالضبط.. تماما مثل شجرة النسور العملاقة فى بحيرة التماسيح.. والحقيقة هى أن هذه الشجرة بالتحديد كانت من أشجار الغابة العتيقة وهى الوحيدة التى بقيت منها."

قال فرخ البوم الأبيض: "أمى لقد وعدتى بأن تحكيها من البدايه.. وها أنتى الآن تقفزين نحو النهاية."

قالت الأم مبتسمة للصغير: " معك حق..ولكنى لم أرد القفز نحو النهاية .. فقط أردت أن أجيب عن أسئلة أخوتك.. وأعدك من الآن و صاعدا سأحكى الحكاية بالترتيب من البداية و حتى النهاية .. "

قال الفرخ لأمه: حسنا" ثم نظر إلى أخوته  كمن يستعطفهم ويتوسل لهم : " رجاءا لا تقاطعوها.. سوف تحكى الحكاية بالترتيب من البداية و حتى النهاية .. " .. قالت الأم و هى تربت على رؤوس أبنائها  بجناحيها خوفا من مشاجرة ليلية .. " حسنا لا مقاطعات .. "ثم أكملت قائلة :

"قديما كانت غابة الأشجار الضخمة تغطى كافة أرض البحيرة و تمتد فوق شواطئها وإلى مسافات شاسعة فى البرية، كانت تسكن الغابة أشجار حكيمة ومعمرة قديمة قدم الزمان، و كانو يسمونها أشجار "المووه" (The Mouh)، اكتسبت حكمتها من بقائها على مر السنين والأجيال تشاهد تتابع الفصول ومواسم المطر والجفاف وكان العالم يتغير من حولها وهى فى مكانها شامخة، كانت أشجار الغابة قوية تضرب جذورها عميقا عميقا فى الأرض، لم تعرف أشجار الموه الهرم أبدا وكانت دائمة الخضرة والنضارة .. حالها فى الصيف كحالها فى الشتاء ولا تتساقط أوراقها إلى فى أيام قليلة من العام، كما كانت ثمارها حلوة المذاق وكانت تلقلى بها للحيوانات على الأرض طوال العام فلا يتكبدون مشقة صعود الأشجار أو تسلق الأغصان، وكان الحيوان الذى يقضم احدى ثمارها يستشعر الشيع لمدة فصل كامل من العام و اذا أكمل الثمرة لم يعرف الجوع أبدا طوال عمره.."

".. ولكن كل هذه الأشياء لم تكن سر تميز أشجار الغابة العتيقة.. فلقد كانت تلك الأشجار حية بمعنى الكلمة.. وكانت تتحدث اللغة الأم – لغة "المووه" أو لغة كل الأشياء كما كانوا يسمونها وقتها.. لا أحد الآن يعرف هذه اللغة التى رحلت عن العالم منذ وقت طويل مضى.. ولا أحد يعرف كيف كانت أصوات كلماتها.. ولكن كلمات "المووه" كانت كلها حكيمة وجميلة.. وصوتها عذب.. لم تكن حيوانات الغابة فى ذلك الزمان تفهم لغة "المووه" ومع ذلك كانت تبكى عندما تستمع إلى الأشجار وهى تتحدث بها إلى الريح .."

".. كانت أشجار الغابة تتحدث إلى الحيوانات بلغتها.. فتفهمها الحيوانات وتتردد فى آذانهم كلمات الشجر بلسان الحيوان عندما تريد الأشجار أن تخاطب الحيوانات .. فمن يعرف لغة "المووه" يستطيع الكلام مع من يشاء بلغته.. فكما كان يقال وقتها كانت لغة "المووه" هى اللغة الأم ولغة كل الأشياء.. "

" فى إحدى ليالى الشتاء المطيرة نزلت بأرض الغابة قبيلة من قردة البابون.. كان قد أعياها رحلة طويلة من السفر وسط البرية و طاردهم المطر وأهلك منهم الكثير حتى نزلوا بأرض الغابة.. وهناك طلبوا من اشجار الغابة أن تحميهم وتظلهم من المطر وان شاءت أبقتهم أسفل ظلالها حتى ينقضى الشتاء.. وكانت أشجار "المووه" رحيمة القلب وكريمة معهم – فتحدثت الى غيوم الشتاء بلغة "المووه" بأن تترفق بصغار المسافرين وتمنحهم ليلة جافة ودافئة ولا بأس من عمل الليل من مطر أن يستكمل فى النهار وأجابت قردة البابون بلغة البابون وخاطبتهم بأن لهم أن يمكثوا تحت ظلالها ماشاؤو- وان شاؤو قضوا الشتاء هنا ويرحلوا فى الصيف إلى سفرهم أو يبقوا فى ضيافة الغابة كما يحلوا لهم من وقت.. وألقت أشجار الغابة تحت أقدامهم ثمارا لم يرا القردة لها من مثيل قط لا فى الرائح و لا فى اللون ولا فى المذاق.. وبعد أن أكل القردة و شبعوا.. تمايلت فروع الأشجار وهبطت الى الأرض تحمل القردة الى الأعلى فلا تتكبد مشقة تسلق الجذوع العالية وجعلت الأشجار من أغصانها بيوتا للقردة.. فى تلك الليلة نامت القرود من الفرح و السعادة الغامرة التى كانت تملأها وليس من التعب ومشقة السفر  وكل منهم تسائل فى نفسه .. أيا كان المكان الذى قصدوه بسفرهم فإنهم بلغوا أجمل مكان فى العالم وما كان لقرد عاقل أن يغادر مثل هذا المكان الجميل لأى سبب كان.. وفى صباح اليوم التالى كان كل القردة قد عقدوا العزم على البقاء فى غابة "المووه" إلى الأبد.. ولقد رحبت أشجار الغابة بهم و عدت.."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق