الأحد، 30 أكتوبر 2011

عفورا شجرة الجوزاء2

2-   شجرة الجوزاء
في منتصف الطريق المكشوف الواقع بين مدينة الشقوق ومنطقة الجحور تمتد مجموعة من الظلال الطويلة، تلقى بها شجرة عظيمة ذات جذران ضخمان، يمتد أولهما لينبسط فوق منطقة الجحور، بينما الثاني فيمتد مخترقًا مدينة الشقوق. وفوق الطريق يلتقي جذرا الشجرة ليشكلا معًا جسرًا ضخمًا يعبر الطريق المكشوف، فوق هذا الجسر المتين ترتكز قاعدة جذع الشجرة،  ينتصب جذع الشجرة ويرتفع نحو السماء ملتفًا حول قاعدته مثل رقبة حية عظيمة الشأن، وقبل أن يبلغ في ارتفاعه عنان السماء – ينقسم الجذع إلى فرعان عظيمان، كل منهما ينقسم بدوره إلى فرعان آخران، ثم تتوالى هكذا كل فروع الشجرة منقسمة إلى أثنين من الفروع تماما مثل الفروع التي نبتت منها، إلى أن تنتهي إلى سيقان  خضراء صغيرة ومورقة، تحمل كل ساق منهم ورقتي توت، فلقد كانت هذه الشجرة العظيمة من نوع أشجار التوت البرى ولكن الحيوانات كانت تسميها شجرة الجوزاء، لان لها جذران وفرعان وفيها من كل شيء زوجان، حتى جذعها السميك إذا ما دقق النظر فيه وتأملته العين فستعلم أنه جذعان متلاحمين يلتف كل منهما حول الآخر.

لقد مضى وقت طويل منذ آخر مرة شوهدت ثمار التوت فوق فروع شجرة الجوزاء، ربما كان ذلك عندما كان الحب والخير يملأ مدينة الشقوق، أما الآن فبالكاد يمكن رؤية ورقة أو ورقتين خضر فوق شجرة الجوزاء العجوز.

قديمًا كانت تسكن هذه الشجرة عائلتين كبيرتين من العصافير البيضاء التي تقتات من ثمار التوت التي تطرحها الشجرة، وكانت كلا العائلتين من نفس فصيلة العصافير البيضاء. ولكن إحداها كانت عصافير بيضاء يزين صدرها رقعة من الريش الرمادي بينما العائلة الثانية فتماثلها تماما في الشكل والهيئة مع اختلاف لون الريش الذي يزين صدور العصافير فلقد كان أحمرا ويزين نفس البقعة.

عاشا كلا العائلتان في أمان وانسجام حتى جفت أغصان شجرة الجوزاء ولم يعد التوت ينبت فوقها، وأصبحت أشعة الشمس الحارقة تخترق الأغصان الجافة وتصل لأعشاش العصافير فتأذى صغارها. وعندها بدأت أسر العائلتين تهاجر واحدة تلو الأخرى حتى خلت الشجرة تقريبا من أي من العائلتين ما عدى عصفورة واحدة أصرت على البقاء حتى تفقس بيضتان كانت ترقد فوقهم، ثم بعد أن فقست  البيضتان وخرج منهما عصفوران صغيران متماثلان في كل شيء تماما، لكن مع كل يوم كانا يكبران فيه كانت الأم تلاحظ أن ريش صدر أحدهما ينمو أحمرا بينما عند أخيه  كان ريش بقعة الصدر رماديا وهذا أم متوقع فلقد كانت الأم من عائلة و الأب من العائلة الأخرى.

انتظرت العصفورة مع صغيريها حتى يصبحا قادرين على وعندها سترشدهم وتقودهم إلى أرض المهجر، ولكن هذا لم يحدث، فمع كل يوم كان العصفوران يكبران فيه وينموا الريش حول أجسادهم الضعيفة، كانت صحة أمهم وعافيتها تتراجع فكانت في  تربيتهم والاعتناء بهم تقوم بدور العصفور الأب والأم  معًا ولقد كان هذا عبئًا ثقيلًا عليها.


حتى جاء يوم فشل فيه العصفوران الصغيران من أن يوقظا أمهما من النوم في الصباح الباكر، واستمرت أمهم بعد ذلك مستغرقة في النوم  الطويل لأيام أخرى تغير فيه شكلها وتعفن لحمها أسفل ريشها من كثرة النوم، حتى لم يعد أي من العصفوران قادرا على البقاء في العش أو يطيق المبيت فيه و قررا أن لا يزعجا أمهمهما في نومها الطويل وقاما ببناء عش جديد لهما على الجانب الآخر من شجرة الجوزاء مستخدمين في بنائه بعض أغصان الشجرة اليابسة ولم يقترب أي منهم من عش أمهم أو يستعير منه أي غصن أو قشه لبناء العش الجديد، وهناك في العش الجديد بدآ يتفهما حقائق الحياة ويدركا ما أصاب والدتهما من موت وتعلما آن الموت يشبه النوم ولكن بدون أي استيقاظ.

عاشا الأخوين الصغيرين  يعتمدان على بعضهما البعض في شؤون حياتهما، لم يتعلم أي منهم الطيران من الأم التي تركتهم في عمر صغير جدا فعاشا يلتقطان الحشرات الصغيرة التي تسير فوق شجرة الجوزاء وتعلما الطيران بعد ذلك من مطاردة الحشرات الطائرة التي تتجول فوق الشجرة مثل اليعسوب والجراد الصحراوي وبعض الفراشات وعندما اشتدت أجنحتهما وقويت تعلما الطيران من الشجرة إلى أماكن أخرى ثم العودة لها ولكنهما أبدا لم يتركا الشجرة و ظلا يعيشان في العش الذي بنياه، ولقد عرفتهم حيوانات البركة بالعصفورين الأبيضان وكانت تسمى أحدهما ذو البقعة الحمراء والآخر ذو البقعة الرمادية.

عندما كبر العصفوران عمل كلاهما في نفس المهنة التي اعتاد آبائهم وأجدادهم ممارستها وهى مهنة علاج وتنظيف أسنان التماسيح، ولكن بعد هجرة عائلتي شجرة الجوزاء و خلو البحيرة من العصافير البيضاء التي تعنى بأسنان التماسيح خلا العصفوران الصغيران، اللذان أصبحا ذا شهرة واسعة بين تماسيح البحيرة، فكانت التماسيح تتزاحم أمامهم و كان البعض يصطف في طوابير أولها عند شاطئ التماسيح وأخرها عند جزيرة شجرة النسور التي تتوسط البحيرة في انتظار دورهم للحصول على عملية تنظيف الأسنان اليومية التي يقدمها العصفوران الأبيضان للتماسيــــح.

كان العصفوران الصغيران يقضيان نهار كل يوم في  تنظيف أسنان التماسيح المتزاحمة أمامهم،لم تكن التماسيح تتحدث إليهم، وكانت تتصرف معهم بهدوء ولباقة لم تعرف أبدا عن حيوان شديد الشراسة والهمجية مثل التمساح، فكانت تصطف في هدوء فاتحة فمها على شاطئ التماسيح وينطلق العصفوران ينظفان أسنان كل تمساح على حده، فكانا يجمعان العوالق وفضلات الطعام الصغيرة التي تعلق بين أنياب التماسيح، ولم يكن أي تمساح يجرأ على إغلاق فمه قبل أن يغادره طبيب الأسنان الصغير ذو المعطف الأبيض.

 

...عصفورا شجرة الجوزاء...1


1-   الشاطئ الشرقي للبحيرة

اعتادت تماسيح البحيرة أن تستلقي على الشاطئ الرملي الواقع في جنوب البحيرة وتعرض نفسها لأشعة الشمس في ساعات النهار، أما شاطئ البحيرة الشرقي فبالرغم من خلوه من أحراش الخيزران والشجيرات التي قد تحجب الشمس عن التماسيح إلا أن  الصخور الجيرية والتصدعات الحجرية جعلته مكانا ذو طبيعة قاسية لا تناسب حيوانات البحيرة كبيرة الحجم مثل التماسيح، ولكن بالنسبة لصغار الحيوانات كالفئران والثعابين والطيور الصغيرة كان الشاطئ الشرقي لبحيرة التماسيح عالمًا فريدًا نحتته الطبيعة بين الصخور لكي تحمى الكائنات الصغيرة من أذى ضواري البحيرة الكبيرة من تماسيح و نسور.

كان  الشاطئ الشرقي للبحيرة ينقسم إلى ثلاث عوالم تجاور بعضها البعض، تتداخل أحيانا و تتباعد أحيانا أخرى، أولها وكان الأقرب إلى البحيرة والأقدم وهو "منطقة الشقوق الصخرية"، وهو جزء من اليابسة كانت تغمره قديمًا مياه البحيرة، ثم انحسرت مياها على مر السنين.

صنعت المياه التي كانت تغمر الجانب الشرقي عند جفافها شقوق عميقة وأخاديد غائرة في الأرض  تمتد على مساحة شاسعة من شاطئ البحيرة الشرقي. تماما في المنطقة الواقعة بين شاطئ التماسيح الرملي في الجنوب وأحراش الخيزران التي تسكنها جماعات الطيور طويلة العنق وأسراب البجع في الشمال الشرقي من البحيرة.

عرفت هذه المنطقة بين حيوانات البحيرة "بمنطقة الشقوق"، وهى ترى كمنطقة خالية من الحياة وجرداء تماما عند النظر إليها من الخارج أو من السماء كما تراها النسور الطائرة ولكن من الداخل يختلف الأمر تماما، فمن داخل "منطقة الشقوق" لا يمكن رؤية السماء الواسعة سوى كخطوط متعرجة ومتقاطعة تضيق وتتسع كما يحلو للشقوق أن ترسم صفحة السماء تاركةً أسفلها العديد من الشوارع الضيقة والمتقاطعة دوما وهناك بالأسفل وفى عمق الأرض كان يعيش عالم غريب من الحيوانات المتنوعة والتي تعلمت أن تتعايش معًا بعيدًا عن أي أذى قد يحمله لها دخيل من العالم الخارجي، فلا يوجد أي حيوان ضاري من الثعالب والنسور استطاع استكمال مطاردة صيد  بلغت الطريدة فيها "منطقة الشقوق" الآمنة.

إلى جوار عالم الشقوق يوجد عالم آخر صغير نسبيًا، عالم لم تتدخل الطبيعة في صناعته و تشكيل ملامحه، وإنما صنعته الحيوانات بنفسها،"عالم الجحور" وهو عبارة عن مرتفع ترابي صغير يمتلئ بمداخل جحور الحيوانات مثل الفئران والأرانب و القوارض وابن عرس وبعض السنويات الصغيرة.
قديمًا كانت كل أسلاف تلك الحيوانات تعيش في منطقة الشقوق ولكن هواء  أخاديد الشقوق الفاسد غير المتجدد والرطب جعل المكان غير صالح لتربية صغار الحيوانات البرية والقوارض، فهاجر الكثير منها إلى الجنوب وحفر لنفسه الجحور في عمق الأرض  لتحاكى عالم الشقوق الذي جاءت منه، وبقيت في منطقة الشقوق الثعابين والسحالي والعقارب والعلاجم وكل المخلوقات الخبيثة التي تضع البيض ولا تلقى أي اهتمام لتربية وتنشئه صغارها.

وبمرور الأيام ازداد الانفصال بين العالمين، أصبح عالم الجحور الجديد  تحكمه القوارض وصار عالم الشقوق حكرًا على الثعابين وأقاربها من السحالي، وقامت الثعابين بإجبار القوارض من فئران وأرانب من اللذين آثروا البقاء في عالم الشقوق على الهجرة وترك المكان للثعابين وبيضها.

فصارت شوارع الشقوق مظلمة، رطبة، كريهة الرائحة بعد أن  امتلأت جوانبها وأركانها بجلود الثعابين اليابسة والمتعفنة التي طرحتها بعيدًا، ومن قبل كانت تزدحم بالحيوانات المتحابة والمتآلفة، لا تمييز بين فصيلة وأخرى. لم يبقى من العالم القديم سوى لغته، فكلا العالمين لا زال يتحدث نفس اللغة بالرغم من تنوع واختلاف حيواناته، بل وينطق نفس اللهجة التي تعرف في البحيرة بلغة أهل الشقوق.

الآن يفصل بين العالمين طريق متسع عرضه يتراوح بين ثلاث أو أربع أقدام، أطلقت عليه حيوانات البحيرة اسم "الطريق المكشوف"، فهذا الطريق لا يتجرأ حيوان على عبوره بالنهار إلا و أصبح هدفًا سهلًا لنسر ضاري وفى الليل هناك البومة البيضاء التي لا يعرف أحد بعد أي شجرة تعيش فيها أو أين تقضى نهارها، بعض الحيوانات تدّعى أن "الشيطان الأبيض" وهو الاسم الذي أطلقوه على بومة البحيرة البيضاء تسكن فوق القمر لذلك فلن يرى أي حيوان عشها بالنهار أو يعرف مكان شجرتها وبرغم هذه القصة غير منطقية تماما إلا أن الكثير من حيوانات البحيرة يبدأ جولته الليلة بالنظر نحو القمر ومراقبته لفترة قبل انطلاقه في الطريق الذي لم يهتم بتحسسه.

وهكذا زاد الطريق في عزله العالمين، و به أمن قوارض الجحور من أذى الثعابين إلا أنه أيضا ملأ قلوب الثعابين والسحالي حقدًا و كرهًا على أهل الجحور.
وبين هذين العالمين المتناقضان يوجد عالم ثالث خفي غير مرئي اسمه "عالم الأنفاق"، وهو عالم تحت الأرض، يؤكد وجوده البعض وينكر وجوده البعض الآخر، فلقد شاهدت  بعض زواحف الشقوق آثار أقدام فئران وقوارض  حية مطبوعة على الطرق المتشعبة في الشقوق ولا يعلم أحد كيف وصلوا إلى هناك، كما شوهدت بعض الآثار التي يحدثها جلد ثعبان زاحف في ممرات سفلية أسفل منطقة الجحور، لا أحد يعلم من صنع تلك الأنفاق السفلية وهل هي بالفعل  موجودة وتربط بين العالمين، أم وجودها مجرد خيال اصطنعته الحيوانات من أجل حكايات ليالي الشتاء الباردة؟ ولكن نسور البحيرة تصر على أن هذه الأنفاق موجودة ويدعى بعض عجائز الفئران أن هذه الأنفاق السرية لا تمتد فقط أسفل الجحور والشقوق ولكنها تمتد لتبلغ شاطئ البحيرة الغربي، ولكن لا وجود لأي دليل على هذا، فعالم الأنفاق عالم سرى غير مرئي وغير معلوم لدى أغلب حيوانات البحيرة.