الاثنين، 16 أبريل 2012

الصقر و الحيات الثلاث (الجزء الثالث و الأخير)

فى صباح اليوم التالى وبعد أن انتصفت شمس الظهيرة، ذهب الصقر إلى بوابة المسجد الكبير وجلس فوق قمتها وهو يراقب صخرة الحية الصيادة، وانتظر هناك  حتى تحركت الشمس وجعلت ظلاله ترتسم أمام مدخل جحر الصيادة.

وهنا بدأ يضرب الهواء بجناحية ليجعل الحية ترى ظلاله وتنتبه لصوت أجنحته. وبالفعل فى ذلك الوقت كانت الحية نائمة ولم ترى الظلال ولكن صوت تصفيق الأجنحة أخافها فلم همت تخرج وتنظر ماذا بالخارج؟ - شاهدت ظلال الصقر تتراقص أمام جحرها فامتلأت رعبًا وكمنت فى مكانها مجفلةً - ولكن منتبه كما أراد الصقر.

فى ذلك الموقف استمعت الحية إلى حديث صقران ميزت ظل أحدهما ولكن الآخر لم تستطع ملاحظته دون الخروج من الجحر- "ربما كان ظله يمتد فوق الصخرة !"- كان كلا الصقران يتحدثان حديثا مرعبا عن وليمة من حية كبيرة تعيش أسفل صخرة بالمسجد، ولكنهما بعد لا يعرفان مكان تلك الصخرة- ومع ذلك فلا توجد مشكلة - فهذه الحية لها أخت تكرهها و تحدثت الى أحد الصقور بأنها سوف تخبره بمكانها بعد ثلاث أيام.

قال أحد الصقور ولماذا لا نأكل تلك الأخت أيضا عندما تأتى لتخبرنا؟  فأجابه الصقر الآخر بأنها جاءته عند غروب الشمس وتحدثت إليه من بئر المئذنة فلم يرها- وهكذا حفظت حياتها فالصقور لا تأكل ما لا تراه- قال أحد الصقور" يا لها من حية ماكرة- هل من سبيل نصطادها به؟" رد الآخر قائــلا: " طالما كان ذلك فى وقت الغسق المظلم ولم تتسلق المئذنة فلا سبيل لها"

ثم عادوا يتحدثون عن الحية الكبيرة التى سوف يصطادونها بعد ثلاثة أيام و يقيمون عليها الوليمة، وذكروا أنها تدعى الصيادة واختلفوا بينهم فيمن سيأكل الذيل ومن سيأكل الرأس،  ثم تشاجرا وحلّقا بعيدا ولم تسمع الحية بقية نقاشهم المخيف.

شعرت الحية "الصيادة " بدناءة  و وضاعة أختها  "الواشية"- ثم قالت: "هذا هو طبع الواشية.. وربما كانت هى من دلّت الصقور على الحية الخادعة" وقررت الانتقام ، فذهبت فى ظلام تلك الليلة إلى قاعدة المئذذنة وتسربت إلى جوفها من بين الحجارة المتناثرة من حولها، ونادت على الصقور فلم يجبها سوى صقر واحد!

 فأخبرته أنها الحية "الصيادة" و جاءت تدله على حية لذيذة.. فسئلها الصقر "و أين سأجــــدها؟" فوصفت له مكان جحر أختها "الواشية" وأنها تعيش فى شق فى درجات السلم الموجود أملم باب المسجد الصغير.. ثم صمتت لحظة وقالت : تماما عند الدرجة الوسطى من الدرجات الثلاث تكاد تخفى مدخل الشق شجرة صبار لها ثلاث قرون.. لا يوجد فأر قد يخطىء ذلك المكان بعد هذا الوصف"
قال الصقر: " صدقتى أيتها الصيادة.. لن أخطئه.. ولكن اذا كان هذا هو مكان جحرها وهى تختبىء فيه فلا سبيل لى معها.. لا يستطيع الصقر أن  يخرج حية من جحرها؟"

قالت الحية: "فى صباح الغد سوف تجد الحية الواشية ترقد متعبة أمام جحرها ولن تستطيع أن تدخل جوف الجحر أو الاحتماء داخله"
قال الصقر: "كيف؟" لم تجبه الحية و اكتفت أن قالت: " فى الصباح لن يسعها جحر ولن يكون لها ملاذ من صديقها الصقر" وانصرفت دون الاجابة عن اسئلة الصقر المتتالية و تركته فى عشه ينتظر شروق الشمس فى غير صبر.
فى تلك الليلة انخرطت "الصيادة" فى عدة مطاردات مع فئران المسجد حتى أثارت الرعب والجلبة بين كل حيوانات وقوارض المسجد، فى العادة كانت الحية الصيادة تكتفى بفأر واحد  فى الليلة. ولكن فى هذه الليلة قامت "الصيادة" بصيد ثلاث فئران كبيرة الحجم!!!  وحملتهم وهى تجرهم من ذيولهم نحو جحر الحية "الواشية"

كانت "الواشية" تراقب اختها الكبرى وهى تزحف نحوها وتجر ثلاث فئران من ذيولهم ، نظرت "الواشية" بحقد نحو أختها وعضت على شفتيها حتى لا تخرج الكلمات التى تتنقل بين فمها وعينيها محاولة الخروج " ليلة جديدة أفشل فيها فى صيد فأر واحد وها هى أختى الخبيثة تأتى لتغيظنى  بفئرانها الثلاث.. انى اتسائل هل ضاق المكان فلم تجد سوى عتبة منزلى فتتناول الغبية عشائها فية؟".. ..  وثبتت عينها الحقودة نحو أختها الكبرى وقالت : "قريب ستكونين أنت الطريدة!!"

وما أن وصلت "الصيادة" بأنفاسها اللاهثة والمتقطعة حتى حيت اختها وعرضت عليها الصلح، فى البداية تمنّعت الحية "الواشية" لكن بعد أن سئلتها "الصيادة" أن تتقبل  هديتها (الفئران الثلاثة) كترضية منها وافقت سريعا الحية الواشية فلقد كانت فى قمة الجوع وسرعان ما شاركت اختها الوليمة فهى ليست بمهارة أختها فى الصيد و لم تحظى أبدا بمثل تلك الوليمة، وصارت تبتلع الفئران واحدا تلو الآخر حتى امتلأت بطنها وتباعدت حراشفها حول بطنها  المنتفخة التى صارت الان مثل حجر أسود عظيم وفى النهاية سئلت أختها لمذا لم تتناول أى شىء من الطعام ؟ أجابتها "الصيادة " قائلة : "  كنت عازمة على هذا و لكن عندما رأيت ما بك من جوع فضلت أن تشبعى أنت .. أما أنا فسأتدبر أمرى فى الغد"  ثم قالت: " ربما أعثر على أحد الفئران فى طريقى الى جحرى" قالت الحية "الواشية": " جحرك!!" .. أرجوك لاتذهبى إلى هناك واقضى النهار معى فى الجحر لدى متسع من المكان يكفينا معًا!"

قالت "الصيادة": " ولماذ أقضى النهار عندك؟..لماذا يا أختى؟".. ترددت الحية "الواشية" فى كيف تشرح لأختها ولكنها لم تستطع أن تتركها تذهب وحيدة الى جحرها حيث ينتظرها الصقر ولا تستطيع أيضا ان تخبرها عن وشايتها إلى الصقر، ولكن عينها امتلئت بالدموع.. وعندها انتبهت الصيادة نحو وجه اختها العاجز عن الكلام  فبكاء الحيات شيىء غير مألوف فى عالم الثعابين- فالعادة هى أن تبكى الحية سما من فمها، ولم ينتهى الأمر عند هذا الحد فلقد سمعت الصيادة من لسان أختها آخر شيىء توقعت سماعه من حية! .. الصدق.. !!


 قالت "الواشية": لم أكن أعلم البر فيك، كنت أغار منك ومن أختى، هى كانت ماهرة فى التخفى والمراوغة حتى انها تتجول حرة فى ساعات النهار، وانت كنت سيدة الليل والصيد، وانا كنت الوحيدة فيكم التى لا تفلح فى أى عمل كنت أشعر انى وحيدة وسط اخوتى، كنت هكذا دوما و لكن ليس الليلة.. ليس الليلة ثم بكت ثانية!، تعجبت "الصيادة" من مشهد اختها و تسائلت هل ما يخرج من عينها ماء أم سم؟ ثم قالت هونى عليك يا أختى ولا تبتأسى.. لقد اقتربت إشراقة الشمس إذهبى إلى جحرك وارتاحى، قالت "الواشية": " لا لن أعرف الراحة حتى أموت أو تغفرى لى".

أجابتها "الصيادة": " انى أعرف الموت .. أعرفه مثلما تعرفه كل حية.. أما المغفرة" ثم زفرت نفسا باردا رطبا كما لو أن كلمات الجملة صارت أثقل من أن تنطق بها وعادت لتشهق و تبدأ جملة جديدة و عينها تتنقل بين الجبل الشرقى الذى ستشرق الشمس من خلفه وعين أختها وقالت فى عجالة:
"ماذا فعلت يستوجب المغفرة؟"

تجرعت الحية "الواشية" شيء من الحسرة قبل أن تقص على أختها حكايتها مع الصقر، كانت الأحداث ترويها بشكل متلاحق أمام أختها التى تجمدت مثل حجر أسود لا يتحرك فيها شيء سوى عيناها التى كانت تتنقل بين اختها ومنظر الجبل الشرقى.

وعندما انتهت "الواشية" نظرت الى اختها كمن تنتظر إجابة أو أن تخنقها وتقتلها ولكن الأخت الكبرى لم تتفوه بشيى فقط قالت :" لا بأس تأخر الوقت على مثل هذا الكلام.. ولقد اقترب شروق الشمس.. النجوم تنطفىء الآن فى السماء لقد تعبت الليلة .. إذهبى وارتاحى فى جحرك، وبدأت تسحب جسدها الأسود الطويل الذى التفت طياته بين الصخور.. نادتها "الواشية" لا تذهبى إلى جحرك لا تذهبى إلى هناك الصقر ينتظرك، لم تنبس الصيادة بأى كلمة كانت ملامح وجه الصيادة قاسية وجامدة و لم يكن من السهل على "الواشية" أن تتبين منها أى شيىء، ولكن قبل ان  تنصرف "الصيادة" من المكان عاد رأسها ليقضم ذيل اختها و دفعت كل سمها فيه حتى صار مثل قرن أبيض ثم انتفخ و تورم و صار مثل تمرة بيضاء، لم تتألم " الواشية " من عضة أختها فهذا الجزء من جسم الحية أقرب إلى الميت عنه إلى الحى و مع ذلك سئلتها: "لماذا؟"

أجابت "الواشية":

"  لا تقلقى لن يؤذيك السم أو يقتلك  ولكن يا أختى يا أغلى ما لدى أنت آخر من تبقى من عائلتى! ومع ذلك فإنت متهورة طائشة لا تحسنين اختيار أصدقائك وانى أخاف عليك .. وما من حيوان أخشى أذيته عليك أكثر منك! وهذا السم فى ذيلك سيمنحنى الطمأنينة فى نومى وأنا أعلم أن من سيسعى فى أذيتك سيكون فى ذلك هلاكه."

ابتسمت الواشية وودعت أختها وهى تقول: " يا ليتنى سمعت منك هذه الكلمات من قبل.. يا ليتنى احسنت الظن بك"

قالت "الصيادة" : "لا بأس لا بأس العبرة بالنهاية"

وانصرفت الصيادة وهى تتنقل فى خفة  بين ظلال الصخور الرمادية وهى تسرع فى زحفها، وتحركت الواشية متثاقلة تجر جسدها المنتفخ بالفئران الثلاث من وليمة الأمس وانزلقت فوق درجات سلم المسجد حتى بلغت شق جحرها فدخلت فيه متعبة منهكة من سهرة الأمس.

 ولكن جسدها كله لم  يدخل من فتحة الجحر وظل نصفه عالقا فى خارج الجحر، كانت متعبة ومنهكة فآثرت البقاء على هذا الوضع بعد أن دفعت نصفها الخارجى ليتدحرج فى البقعة التى تخفيها ظلال شجرة الصبار فى الصباح.

عندما لاحت أشعة الشمس ونجحت فى القفز فوق أسوار الجبل الشرقى، امتدت نحو مئذنة المسجد فأضائتها  وكشفت عن زخارف ومنحوتات بديعة كانت ظلال الليل قد أخفتها، فى هذه اللحظة انطلق الصقر مسرعا يحلق و يدور حول المسجد فى دوائر متداخلة سرعان ما التحمت و صارت دائرة واحدة بعد أن ثبت الصقر نظره على ركن متهدم من البناء، عند البوابة الصغيرة للمسجد، ففى تلك اللحظة  ومن مداره فى السماء كان يراقب الحية الراقدة على درجات السلم، ووجدها تماما كما وعدته الحية "الصيادة" – ترقد خارج الجحر.

 ادار الصقر جناحيه لينزلق هابطا نحو درجات السلم وهو يردد هذه الكلمات التى تبعثرت حروفها فى السماء الواسعة" أخيرا أيتها الواشية نلتقى وجها لوجه" وما أن أن بلغ الصقر درجات سلم مدخل المسجد حتى وجد الحية ساكنة فى غير حراك فقفز نحوها و حاول أن ينتزعها و يحمله بمخالبه متمسكا بالجزء المنتفخ من جسمها،حتى ذعرت الحيه وحاولت دفع جسدها داخل الجحر و بالفعل انحشر جزء من جسمها المنتفخ عند مدخل الجحر فعجز الصقر عن جذبها وهو محلقا، فهبط ثانية نحو الأرض و أمسك برأسها الأبيض الصغير الذى كان يتدلى من خارج الجحر – أو ما ظن الصقر أنه رأس أبيض صغير مغمض العينان ولكنه فى الحقيقة كان ذيلها المنتفخ بفعل سم الحية "الصيادة"- قضم الصقر طرف الذيل بمنقاره وغرز مخالبه فى درجة السلم و أخذ يجذب الحية من ذيلهه وهى تقاومه.

وفجأة سالت دماء الحية بيضاء اللون حارة و لزجة فى منقار الصقر، كان مذاقها كريه مرير – على غير ما تذوقه الصقر مع الحية "الخادعة"- سريعا قذف الصقر ذيل الحية بعيدا عنه، وهو يحاول أن يفهم ما هذا الطعم الغريب الذى يملأ فمه الآن، أخذ يراقب الحية وهى تحاول حشر نفسها داخل الجحر دون أن يبالى فلقد تحول الطعم المر  إلى شيىء مؤلم أخذ يتسرب إلى كل مكان فى جسم الصقر ، وأصبح الصقر يحاول الآن جاهدا أن يبقى نفسه واقفا فوق درجة السلم و فجأة سقط من على درجة السلم و تدحرج حتى تعثرت ريشاته واختلطت بتراب الأرض وافترشت أجنحته الأرض فى عجز تام، و تعلقت عيناه الحادتين بحية أخرى ظهرت من بين الشقوق و ظلال الصخور واقتربت منه و هى تهمس فى أذنه قائلة:

"أنا الصيادة ولكنى لست حمقاء أو واشية.. ولا أخرج إلا لأصطاد.. اعلم يا سيد السماء أن العاقل الراشد كان ليتجنب شجارا بين حيّتان وما كان ليدفع بنفسه وسط شجار الأفاعى أملا فى منفعة- نحن معشر الحيات يجمعنا شيىء أقوى من الدم"

رفع الصقر بصره ولكنه لم يقوى على الكلام و ترقرقت عيناه بتعجب ودموع فبدى كما لو أنه يسئلها "ماذا؟"

قالت الصيادة: "السم يا أحمق"

وهنا ابتسمت الصيادة ابتسامة ماكرة لمعت فى عين الصقر مثل نجمة وحيدة فى سماء من ليل سرعان ما انتشر ظلامه وسكونه حول عالم الصقر.

عندما سمعت الحية الواشية كلمات أختها تتردد فى الخارج تشجعت و دفعت بجسدها نحو الخارج حتى أطلت برأسها و شاهدت المشهد فى الخارج، كانت الحية الصيادة تنثنى بكسل وهى تنظر نحو درجة السلم الأخيرة ومن أمامها ظهرت ريشات جناح صقر عظيم امتدت مفتوحة على الأرض الترابية فى سكون وسلام.

سئلت "الواشية" أختها فى بلاهة : هل أنت من قتله؟  ردت الصيادة :" لا أعرف.. لقد وجته ملقى هنا أمام جحرك ، اما أنه قد سقط من السماء أو أنت من قتله،" قالت الواشية " لا لم يسقط لقد كان يحاول اصطيادى" قالت الصيادة مبتسمة: "اذا فهذا الشرف لك.. لا تقللى من نفسك  ثانية" من اليوم انت صيادة الصقور."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق